* هذه سنة الله في الكون تتقصف الأعمار وتنقضي الآجال وتخبو النجوم بعد إلتماع وتذرو الرياح كل شئ فتذره قاعاً صفصفاً حتى الجبال ينسفها ربي نسفاً.. وهكذا مضى محمد إبراهيم زيدان على (1943م - 2011م) بعدما قضى على ظهر هذه البسيطة ما يقارب السبعة عقود كغالب أبناء الأمة المحمدية «أعمار أمتي بين الستين والسبعين».. ومن أجمل ما سمعت من تعليق على رحيل زيدان ما قاله الأستاذ إسحاق الحلنقي إن مقدم البرنامج في إحدى القنوات سألهم وكانوا جماعة من بينهم الراحل زيدان.. ماذا يجول بخاطرك وأنت تتأهب للنوم؟ يقول الحلنقي قال كل منَّا كلاماً مختلفاً إلَّا زيدان فقد قال «أنا أردد قبل أن أخلد إلى النوم الشهادتين فأنا لا أدري هل أنتبه من نومتي هذه أم لا» وتمنى الأستاذ الحلنقي أن يكون المولى عز وجلَّ برحمته قد ألهم المرحوم زيدان نُطق الشهادتين لتكون آخر كلامه من الدنيا.. ومن «أسوأ وأعجب» ما سمعت من مذيع شاب يعمل في قناة أم درمان الوليدة وهي القناة التي نرجو منها ومن صاحبها الكثير الذي يلون حياتنا بالفرح والخير والجمال.. يصف موت زيدان بأنه «الهزيمة الكبرى» ولم أسمع في حياتي من يصف الموت الحقيقة الأزلية بأنه «هزيمة» وكُبرى كمان رحم الله محمد إبراهيم زيدان الذي أجيز صوته بإذاعة أم درمان عام 1963م وقدّم عشرات الأعمال ونال تكريم الدولة «بوسام الآداب والفنون».. وصُنِّف في الإذاعة «بالدرجة الأولى الممتازة» وحصل على جائزة المنظمة العالمية للملكية الفكرية «وايبو» وشارك بنشاطه الفني خارجياً في عشرين دولة عربية وأفريقية وأوروبية وأمريكية رحمه الله رحمة واسعة وجعل الجنة مثواه آمين. * وقد تابعت الإذاعات والفضائيات السودانية وقد إتَّشحت «بالسواد» مع أننا «بِنَحِدْ بالدمورية!!» لكن يبدو أن إظهار الأناقة مطلوب أكثر من إظهار الحزن!! وإحتشدت الجموع في دار إتحاد المهن الموسيقية وفي العبَّاسية وفي مطار الخرطوم وفي مقابر البنداري بالحاج يوسف وليس من بينهم الأقارب والأصهار لكنهم الشعب السوداني الحنون الودود الذي تجمعه دائماً المصائب والشدائد فيظهرون عاطفة قلَّ نظيرها.. «ويحرِرُن البِكا» فكيف إذا كان الفقيد مطربهم المفضل «زيدان» وكنَّا شباباً «ولا نزال» من المعجبين بأغنيات زيدان وكنت «ولا أزال» أحفظ عن ظهر قلب أغنية الشاعر «إبراهيم ناجي» الرائعة عندما يغنيها زيدان بلحن شجي وصوت مفعم بالشجن فيقول :- داوي ناري والتياعي وتمهَّل في وداعي يا حبيب العمر هب لي بضع لحظات سراعِ «قف تأمل» مغرب العمر وإخفاق الشعاع وأبكِ جبَّار الليالي هزَّهُ طول الصراعِ ما يهم الناس من نجمٍ على وَشَكَ الزماع غاب من بعد طلوع وخبا بعد إلتماعِ آهِ لو تقضي الليالي لشتيتٍ باجتماع كم تمنيت وكم من أملٍ مُرّ الخداعِ وقفةٌ أقرأ لكِ فيها أشعار الوداع ساعةٌ أغفر فيها لكِ أجيال إمتناعِ يا مناجاتي وسرَّي وخيالي وابتداعي تبعث السلوى وتُنسِّى الموت مهتوك القناعِ دمعة الحزن التي تسكبها فوق ذراعي فتسموا أرواحنا ونحلِّق في فضاءات اللحن وعذوبة الكلمات. * الموت سبيل الأولين والآخرين.. ولكن!! «يعني لو ما لَكَنْتَها ما بترتاح!!».. أنا أحدث نفسي ....... اطلعت على أحوال الكثير من المطربين الكبار.. كانوا دائماً خاليي الوفاض «مع كثرة عداداتهم» فما أن تحل عليهم مصيبة أو تنزل بهم نازلة عندما يتقدم بهم العمر «ما تلقى عندهم التكتح» فينشأ السؤال «قروشهم البياخدوها دي بتروح وين؟» أنا لا أحدثكم عن من مات.. فذاك قد أتاه اليقين من ربه فأفضى إلى ما قدَّم.. نسأل الله لهم الرحمة والغفران وأن يبدل سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً. ولكن من أراد موعظة فالموت يكفيه.. وما يملأ عين ابن آدم إلا التراب.. وبنجوميتهم وعطائهم الفني يستحقون التكريم لكنهم يقبضون أولاً بأول ما يطلبون من أجر نظير أعمالهم وتتكفل الدولة برعايتهم وقد أنشأت لذلك صندوقاً يسمى «صندوق رعاية المبدعين»!! أين هو؟ فكل يوم نطالع مناشدة لعلاج فلان وإدراك عِلَّان!! وأحيَّ النائب الأول لرئيس الجمهورية الذي ما فتئ يتابع أحوال المبدعين ويُغطي ما بدا من عجزهم لكنه لا يسأل القائمين على أمر الثقافة ولا أمر رعاية المبدعين.. فدولتنا تهزم نفسها بنفسها تؤسس مؤسسات ثمَّ تسلبها عملها وتنازعها واجباتها فلو ذهبت الأموال التي تنفقها الدولة بصورة فردية ومباشرة على المحتاجين من المبدعين للصندوق المخصص لهذا الغرض بشكل راتب في صورة ميزانية تدار على أسس اللوائح المالية والمحاسبية للدولة وتراجع بواسطة المراجع العام إذن لوفرنا على المبدعين ماء وجههم.. ولو ادخر المبدعون من «دخُلهم وعداداتهم» ما يعينهم على مجابهة متطلبات الحياة وتقلباتها بدلاً من صرفها في «الفارغة والمقدودة» لكان أجدى فكل المبدعين في العالم أثرياء يملكون القصور واليخوت والمجوهرات لأن لهم من يديرون لهم أعمالهم وأموالهم فيستثمرونها لصالحهم بل ويتبرعون لغيرهم «إلَّا نحن» ولا نملك مبرراً لذلك إلا قول الشاعر محمود غنيم :- «هوِّن عليك وجفِّف دمعك الغالي .... لا يجمع الله بين الشعر والمال» فنضيف إلى عجز البيت من عندنا لا يجمع الله بين الشعر والغناء والتلحين والرسم والتمثيل والإخراج والتصوير والمونتاج والتقديم والنحت «من جهة» والمال «من جهة أخرى».. فاعتبروا يا أولي الألباب. * دُعي الفنان محمد الحسن على قيقم إلى إقامة حفل عرس في إحدى القرى والمكان يعج «بالمعازيم» فطلب قيقم الإبريق والمصلاية له ولفرقته. فقال احد الضيوف لزميله «أرَحْ نمشي خلاص اتعشينا وقمنا بالواجب» فردَّ عليه زميله «خلينا نحضر الحفلة» فقال الأول مستنكراً «حفلة شنو؟ حفله فنانها يقطع الجُمار ويتوضأ ويصلي أقنع من خيراً فيها!!» فقد تعوَّد الرجل على عشاء الفنانين.. وسكر الفنانين.. ودخان الفنانين.. قالوا تدخين ال....... بيصلِّح الصوت!!.. اللهم أهدنا أجمعين وأجعل خير أعمالنا خواتيمها. وهذا هو المفروض