تواجه قوى اليسار بأكثر من غيرها بالأسئلة الصعبة المتعلقة بتحديات الراهن السياسي باعتبارها مرتبطة بالحداثة والتقدم ونذرت نفسها لتغيير الواقع والسير به نحو الأفضل، ومع ان كثيرا من هذه التنظيمات اليسارية عاشت وتمدد بريقها لفترة من الزمن، خصوصا في عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، الا ان بريقها بحسب محللين يبدو كبريق يخرج من متحف للشمع لم يأتِ بجديد اويخلص الى تجديد يمكن ان يعالج قضايا الراهن والمستقبل وظل الكثيرون ممن ينتسبون اليها اسرى الاطار القديم، او خرج بعضهم منفلتا من تلك المنظومه بينما وج?انه يتغنى بأهازيجها وهو يبحث في داخله عن ثورته الضائعة وطموحاته المعلقة، فهل ما يحدث لقوى اليسار انه انحسار افكار على شاطئ التاريخ لم تستطع مخاطبة الحاضر؟، ام هو البحث عن فكرة تنبع من اصل المكان والزمان والانسان؟ ، تتحدث بلسان الاجيال الجديدة وتلامس قضاياهم بشئ من الحكمة والحنكة. مدير مركز السودان للبحوث والدراسات الاستراتيجية الدكتور علي عيسى يرى ان قوى اليسار لم يعد لها ذلك الصوت الذي سمعه الشارع السوداني اثناء الديمقراطيات الثلاث، لانها كانت تسيطر على كل اجهزة الاعلام في ذلك الوقت، ولكن بعد مجئ الانقاذ الى الحكم تغير الوضع وخفت بريقها وفقدت كل تلك الوسائل التي قدمتها بشكل كبير اكثر من برامجها الفكرية، ليؤكد بعدها ان كل المنظومات اليسارية الموجودة ارتبطت بأنظمة انهارت الآن وقد انكسرت فكريا وسياسيا، سواء ان كان ارتباطها بالاتحاد السوفيتي او الانظمة البعثية في سوريا والعراق او ال?زب الاشتراكي الناصري الذي اثرت فيه الثورة المصرية لتقطع الخيط الرفيع الذي تبقى له وكان يقود به العمل، فالواقع يقول ان الاحزاب اليسارية ليس لديها جماهير الآن، ولاتؤدي ادوارا ملموسة والا لماذا فشلت في جذب الجماهير السودانية ؟ واشار عيسى في حديثه ل الصحافة عبر الهاتف الى وجود ما وصفها بالمجادعات من وقت لآخر من الحزب الشيوعي، واضاف ان من يسيطر على الساحة السياسية في الوقت الراهن هو المؤتمر الوطني والحركات الجهوية المسلحة والاحزاب لم تعد هي الخيار الآن، بجانب انها لم تستغل كل هذه الازمات التي مرت بها البلاد لا?ادة ثقة الجماهير التي فقدتها بسبب افكارها التي لم تعد ملائمة لواقع السودان، وهاهي الآن قد انكفأت على ذاتها، غير انها لم تكن جادة في طرحها وقد جاءتها فرص كثيرة لتقدم للشارع السوداني ماعندها من رؤى وافكار ولكنها فشلت . بعض هذه المنظومات المعنية بالأمر تنظر الى فكرها على انه جديد ومتجدد، ويصلح لحل الازمات التي تعاني منها البلاد مبررة انقطاع التواصل بينها وبين الشارع السوداني بالنظام القائم الذي يحد من حركتها السياسية، ويبدو ان الحزب الشيوعي هو الاقرب الى هذا التبرير من خلال مواقفه و مبادراته التي طرحها بشأن القضايا الوطنية بين الحين والآخر وتفاعله الملموس مع الناس والشارع، وهو كما يقول مراقبون للساحة السياسية افضل حالا من بقية المنظومات اليسارية الاخرى التي تعيش حالة من الركود غير مسبوقة، ويؤكد القيادي بالحزب الشيوعي ?لسوداني صديق يوسف ان حزبه لازال يقدم ويلبي طموحات قواعده، موضحا ذلك اثناء حديثه ل(الصحافة) عبر الهاتف قائلاً : (نحن متواجدين بشكل عام حسب المتاح، نتيجه لانعدام الحريات)، واضاف (نجد صعوبات في توصيل رأينا كحزب للشارع وفي احيان كثيرة نمنع من النشاط السياسي في الاماكن العامة، ولكننا لم نتوقف عن العمل العام مع قوى الاجماع الوطني ونقيم ندواتنا السياسية في دورنا بشكل مستمر)، وقال مستنكرا و متسائلا (ماذا ينتظر منا الشارع السوداني ان نفعل ونحن في هذا الوضع؟ وفي دولة تنعدم فيها الحريات). الحزب الاشتراكي العربي الناصري كما يرصد متابعون يغيب عن الانظار، مشيرين الى ان آخر تقارب بينه والشارع السوداني كان في الانتخابات السابقة، وعلى الرغم من ذلك يجيب الامين العام للحزب الناصري مصطفى محمود، على تساؤلاتنا باصرار على وجود الحزب في الساحة السياسية وفي كل الاماكن والمنابر المحررة، وبررمحمود غياب حزبه عن الجماهير الى وجود حظر اعلامي على نشاطات حزبه في اشارة الى ان هناك جهات عليا خلف هذا الحظر، واضاف (نحن رأينا واضح وثابت بان النظام الحالي هو ازمة السودان الحقيقية)، وقال انهم على المستوى الحزبي ?قيمون نشاطاتهم في دار الحزب باستمرار وساحات الحركة الطلابية بكل ولايات السودان، واشار الى معاناتهم في ايصال صوتهم الى الناس مشددا على ان حزبه مرتبط بالجماهير وسيقف في الشارع ويوزع منشوراته للشعب السوداني (لان الاعلام يستجيب للضغوط المفروضة عليه)، نافيا تأثير سقوط النظام المصري على الحزب الناصري وقال ان الحزب الناصري لن ينهار نتيجة هذا السقوط، ويقول ):نحن كحزب سعيدين جدا بالثورة المصرية وما احدثته من تغيير) و بعد ان سألناه ان كان التراجع الذي يشهده الحزب الناصري بسبب ازمة فكرية ام تنظيمية مضى مدافعا عن ?لفكر الناصري وقال إنه متجدد ويواكب المستجدات وان الثورة المصرية تضيف للحزب ولاتخصم منه. ومع ان الساحة السياسية تضيق يوما تلو الآخر وتتكشف عن غياب مريع لقوى اليسار من دائرة الفعل الا ان رئيس حزب البعث السوداني محمد علي جادين يرفض في حديثه ل(الصحافة) عبر الهاتف وصف ابتعاد حزبه عن القضايا اليومية للناس بالغياب قائلا : (لايمكن تسميته غياب ولكنه تباطؤ نحن مهتمون ومتابعون، ونشطون في حدود الممكن والمعقول، ونعمل مع قوى الاجماع الوطني ونتابع مايجري في السودان والوطن العربي )، واضاف مستنكرا ان الثورة في سوريا والعراق لم تنسف تاريخنا وانما زادته قوة مؤكدا ان تأثيرها على حزب البعث العربي في السودان ايجا?ي، ويعمل برؤى واضحة لتحويل نظام الحزب الواحد الى حكومة فيها كل الوان الطيف السياسي، واشار في ختام حديثه ان هذا العهد قد انتهى ولابد من احداث تحول ديمقراطي شامل حتى تتمكن الاحزاب من ممارسة انشطتها واسماع صوتها حتى لا توصم بالغياب.