لم ينتكس الشيوعيون السودانيون وحدهم بعد نحر أو انتحار الحزب الشيوعي السوداني بإقدامه على تنفيذ انقلاب عسكري في 19 يوليو 1971م قاده الرائد هاشم العطا وقد أجهض ذلك الانقلاب بعد 72 ساعة من وقوعه. وكان الصحفي اللبناني فؤاد مطر هو صاحب الوصف نحرًا كان أم انتحارًا فقد ألف بعد فشل الانقلاب كتاباً سماه الحزب الشيوعي السوداني نحروه أم انتحر؟ ولم يكن الحزب الشيوعي السوداني حتى في أوج ازدهاره بعد ثورة أكتوبر 1964م حزباً جماهيرياً، فقد كان في البلد في ذلك الوقت ثلاثة أحزاب جماهيرية هي الاتحادي، الأمة والشعب الديمقراطي، لكنه كان حزباً صفوياً إن صح التعبير، وكان له حضور معقول في الجامعات والمدارس الثانوية والنقابات، وكان هو القوى السياسية الأكبر في الشارع التقدمي، وكانت القوى الأخرى تضم الناصريين والقوميين العرب والبعثيين والاشتراكيين عموماً. لم ينتكس الشيوعيون وحدهم وإنما انتكس أيضاً اليساريون الآخرون فقد ذبل تأثيرهم في الأحداث وصنعهم لها وضعف حضورهم في الشارع. وكانت بداية انتكاسة الناصريين ترجع إلى هزيمة يونيو 1967م التي كان أهم المسؤولين عنها كبيرهم جمال عبدالناصر. ومن الغريب أن الإحساس بتلك الانتكاسة أو أن الضمور الناصري بعد هزيمة يونيو 67 في السودان لم يكن لافتاً بل إن شعبية المسؤول الأول عن الهزيمة، أي الرئيس المصري عبدالناصر زادت وتجلى ذلك كأوضح ما يكون التجلي في الزيارات الثلاث التي قام بها عبدالناصر للخرطوم بعد يونيو 67. وكانت الزيارة الأولى في نفس ذلك العام في فترة الديمقراطية الثانية، وكانت الزيارتان الأخريتان في عام 1970م العهد المايوي، وفي كل زيارة من تلك الزيارات كان مواطنو العاصمة المثلثة يخرجون عن بكرة أبيهم للشارع يهتفون لعبدالناصر، لكنه بعد أن مات في سبتمبر 70 بدأ الإحساس بالناصرية يضعف، وضعف أكثر عندما بدأ خليفته محمد أنور السادات يدير مصر بأسلوب مغاير وينتهج سياسات مختلفة. أما حزب البعث العربي الاشتراكي، فإنه منذ تأسيسه في سوريا أواخر أربعينات القرن الماضي لم يتغلغل أو يتسلل عميقاً في الشارعين السوداني والمصري، ورغم تمكن الحزب من الوصول إلى السلطة في بلدين عربيين كبيرين هما سوريا والعراق، إلا أنه لم يحقق شعبية يعتد بها في أي بلد عربي آخر. وحتى شعبيته داخل هذين البلدين فإن الاقتناع بأفكار الحزب وتوجهاته كان أحد أسباب هذه الشعبية، وكانت هناك أسباب أخرى منها الخوف ومنها الحرص على المصلحة الشخصية، ولم يستطع الحزب على طول الفترة التي مكثها في الحكم أن يقدم نظاماً جاذباً يسعى الآخرون إلى تقليده، وفي النهاية فإن النظام في البلدين العربيين الكبيرين استحال إلى نظام عائلي. وقبل تسعة أعوام سقط النظام في العراق بالاحتلال الأمريكي، ويواجه النظام الحاكم في سوريا هبة شعبية منذ مارس الماضي، وتشير كل التوقعات والتحليلات إلى أن سقوطه أصبح مسألة وقت. وإذا كان يفيد السياسة الدولية أن يكون هناك توازن قوي فإنه مما يفيد الديمقراطية والسياسة المحلية أن تكون هناك أفكار مختلفة تعبر عن اليمين والوسط واليسار ولكن أين هو اليسار؟