بعد أيام قلائل تحل علينا ذكرى الثورة الأكتوبرية 21 أكتوبر 1964، وعلى الرغم من أننى وأبناء جيلي كنا أطفالاً لا تتجاوز أعمارنا العشر سنوات إبان تلك الثورة، إلا أننى أتذكر تماماً ملامحها فى الشارع السودانى، وأكاد أشتم عطرها وما أجمله من عطر.. قنابل الغاز المسيل للدموع ورائحة البارود ودوى الرصاص وأريج أغصان النيم على السواعد السمراء. كانت قوات الشرطة أو البوليس كما كنا نسميه يلبس أفراده الشورت والقميص الكاكى، وينتعلون «شبط» أسود، وفى أجواء تلك الثورة والمظاهرات الحاشدة كانوا يلبسون خوذات حديدية على الرأس، أما تنقلهم فكان عبر عربات «الكومر» الشهيرة، ولا أعتقد أن أبناء اليوم سيتسنى لهم رؤية هذا ال «كومر» الشهير حتى فى المتاحف. لم يكن أهل البوليس فى ذاك الزمان الجميل بمثل هذه الشراسة المتوحشة، بل كان معظمهم من أبناء ذات الأحياء التى من المفترض أن يبسطوا فيها هيبة الأمن ويفرقوا المتظاهرين، لذا كانوا يغضون الطرف أحياناً عن التعليمات المشدد?، فقد كانت دواخلهم تموج بنداء الثورة. ومازلت أذكر الأخ الكريم والضابط الشاب يومها بدر الدين ابو رفاس عندما تأخذه الحمية العسكرية والنشوة بجسده العسكرى الفارع الضخم وهو يصر على مطاردة الطلاب المتظاهرين فى أزقة وحوارى أم درمان. ولم تكن العاصمة بمثل هذا الاتساع الذى نراه اليوم، وكان الريف أيامها حفيَّاً بأهله مما قلل النزوح نحو المدن الكبرى، بل فى تلك الأيام لم يعرف أهل السودان الاغتراب، وكان من يذهب الى السعودية يقال إنه ذهب للحجاز أو الحج. كان الشباب فى تلك الأيام الأكتوبرية النواضر أهل ثقافة واطلاع، ولديهم انفعال كوني بكل ما يدور فى العالم رغم افتقارهم لأدوات التقانة المتوافرة اليوم، وكانت مواعين الثقافة تنحصر فى الكتب والصحف المحلية والعالمية إلى جانب الراديو والسينما. وكادت قلوبهم تنفطر لقتل باتريس لومومبا الثائر الكنغولى، وت?لكهم الأسى لمذابح شاربفيل فى جنوب إفريقيا، ويقرأون فرانز فانون وجان بول سارتر وسيد قطب وسلامة موسى، ويشاهدون روائع الفن السينمائي، ويعشقون مارلون براندو وكاري غرانت وأودرى هيبورن وصوفيا لورين، ويتابعون عمالقة موسيقى الجاز الامريكى لوى آرمسترونج وراى تشارلس. وكما يتزاحم الثوريون والوطنيون فى موج الثورة، إلا أن صدرها كان يتسع للكثير من الأفاقين وعديمى الثقافة والمتنطعين وحتى «الحبرتجية» واللصوص. وأذكر عقب انتصار الثورة أن مجموعة من أولئك الغوغاء قد انقضوا على تمثال يجسد نهضة المرأة السودانية كان قد أقامته حكومة عبود أمام ميدان البوستة بأم درمان، فجندلوه أرضاً وحطموه، وكانت حجتهم الوحيدة لتبرير هذا الفعل أن المرأة التى يجسدها التمثال بالحجم الطبيعى وترتدى الثوب السودانى كان أسفل ظهرها يبرز بروزاً غير محتشم!! لقد استقبلت طفولتنا الغضة مشاهد الثورة تلك بكثير من الابتهاج، فقد تفتحت أعيننا فى وقت مبكر على قيم الحرية والديمقراطية والوعى والتنوير، ثم شقيت أعمارنا بعد ذلك بعقود حالكة من القهر والظلم والاستبداد.