تتفجر الأشياء وتفصح عن مظاهر انفلات التحكُّم فيها، والإنسان بين هذا وذاك يتقلب ويتشكل مزاجه وتتبدل مواقفه وقناعاته، أمام عجلة الزمن التي فاقت طاقة ذاكرته فانسحب الوعي في أوان خروج الذات عن الزمن .. فهناك بعض الأحكام الفلسفية على بعض الظواهر الاجتماعية تشكل ملامحه المختلفة إزاء الظواهر الأخرى الطبيعية وغير الطبيعية في حياة الآدميين ، ولا يخرج من هذا المنظور الذي يتجلى في ظهور بعض العبقريات والذي لا يكون عارضا أو ذاتياً بمحض ما أرادت الشخصية في أن تصنع لها قالباًَ منبتاًَ عن ما حوله من العوامل التاريخية والب?ئية والإبستمولوجية والأنثروبولوجية.. بل هو نتاج لحالة اجتماعية حدت بتشكل هذا النبوغ في أي من ضروب النشاط الإنساني على الصعيد السياسي أو الفكري أو العلمي أو خلافه.. وعلى صعيدنا المحلي هناك تغييرات جمة ساهم فيها بعض ساسة قطرنا المتقطع الأوصال- والذي بتنا ندعو له بالأمان صباح مساء- وفي نظرة تاريخية على هذه الملامح الفكرية فيه نجد في الإطار الواقعي العملي والنظري أن التفكير لوعي الإنسان السوداني وظواهره المعرفية قد تشكلت لديه على وجهين: الوجه الأول: هو الوعي الأصولي وتتشعب في الأنماط والنماذج فيراوح بين التقليد والتجديد المبتسر، وبين الديماجوجية والليبرالية، وبينهما يختبئ عنصرا التحامُل والمجاملة في استبطان آحادي يسود أنماط التفكير عند أصحابه وبين شد اليمين المتطرف للانكماش والتكلُّس في الأعراف والتقاليد وجذب الصفوة والنخب إلى فضاءات التفكير في الحد الأدنى والذي لا يتسنى لغيرهم التحليق في حيزه لامتلاء الغالبية من مرجعياتهم وأصحاب الولاءات منهم بحزازة التمسك بقيمة ما ألفوه بالفطرة والتلقين والمسلمات الميتافيزيكية .. وكل هذا مردُّه لانعدام ?دوات ومعينات التفكير المطلق فاندغمت في آحاديتها المعهودة .. مما يحجِّم النمو في مناحٍ أخرى في الحياة.. أما الوجه الآخر: فهو يستدعي لدينا التروِّي والملاحظة لمظاهر النماء الوافد إلى مجتمع كان مجتمعاً رعوياً في غالب وجوه نشاطه .. فمنذ إرساليات محمد علي باشا وما قدمه المستعمر الإنجليزي رغم الوصمة الاستعمارية ووطأتها على الذات الوطنية -يتشكَّل الجانب المعرفي الحر- أي العلماني- إلا أن ما قدمه من دور في التعليم الحديث وما قام به على إيجاد بنية اقتصادية عجز أن يأتي بمثلها من قاموا على دست الحكم بعد استقلال القطر من وسائل مواصلات كالسكة الحديدية التي تعد في زمانها أعلى مظاهر الرقي ... وهم لم يكن قلبهم على السودان أ? حناناً عليه،ً فحري أن نخاطبهم وهم لهم مآربهم في قطرنا بقول المتنبي ما كانَ أَخلَقَنا مِنكُم بِتَكرِمة لَو أَن أَمرُكُمُ مِن أَمرِنا أَمَمُ ولعل ما قاموا به قد أفسح المجال العلماني إلى الانفتاح المعرفي على الصعيد الواقعي لا الانطباعي الذي نجده في الوجه الأول الأصولي لدى المريدين والمعتفين والمقتفين آثار أقانيم الهلام الميتافيزيكية .. فهناك نجد من يتخذ منطقة وسطاً .. فينال رضا القاعدة .. وفيه يراوح الانتماء مكانه إلى هؤلاء وإلى هؤلاء.. فيظل أصحاب هذا الوجه الوسطي بين التحامل على هذا والمجاملة لذاك.. فتفرقت الجهود بدداً بوصف آحاديتها في التشكُّل والتكيُّف المعرفي إن جاز التعبير.!! ولعل واقع ما نحن فيه الآن وما أفضى به العامل السياسي في آحاديته تجاه الاجتماعي والاقتصادي والديني والعرقي والجهوي والقبلي نابع من لدن وزارة ابتدعها نظام الانقاذ في جدته وحدته، وكان اختلاط الأمور في رسم خارطة عمل الوزارة المعنية حيث دأبت ونشطت فيه من أجل استنهاض ولاءاتهم العرقية والدينية والقبلية وظهور الجهوية بل وإيقاظ ما يستدعي في الذات الجمعي ابتعاث الروح القبلي وغلواء وشر النفس البشرية وفتنها والاحساس العام بالدونية في سيادة التفكير بالمهانة والاستهجان بين الاستعلاء والدونية، فكان الانفصال لدولة جنوب ال?ودان أكبر دليل على تشكل هذا الوعي بل وتواضع الأمة قاطبة على هذه المفاهيم المتشعبة .. فانفكت عرى الأواصر التي تحتاج لزمن مديد حتى يتم الرتق لأواصر كانت عميقة بعيدة الغور راسخة لا يميلها زعزعان الدهر ولا تتناقص أوتاد خيمة الذات الجمعي ، فلله درها من أمة وإن حاق بها كل هذا أراها كمن قال فيها جرير: إذا احتَرَبتْ يَوْماً، فَفَاضَتْ دِماؤها، تَذَكّرَتِ القُرْبَى فَفَاضَتْ دُمُوعُها شَوَاجِرُ أرْمَاحٍ تُقَطِّعُ دونها أواشج أرْحَامٍ مَلُومٍ قُطُوعُهَا [email protected]