قد نواجه في حياتنا اليومية مواقف كثيرة، تؤثر فينا وتستوقفنا برهة وأحياناً تغيرنا إلى الأفضل أو الأسوأ. ٭ كان يوماً عادياً مثل كل الأيام، فجميع الناس ذاهبون إلى اشغالهم وجامعاتهم، الجميع يهرول ليصل إلى المكان الذي يريد، الجميع يتهامون كأنهم لا يبصرون أمامهم نتيجة هرولتهم، ولا انكر اني كنت مثلهم مسرعة، على غير عادتي فقد وصلني خبر اني نجحت في امتحانات الدور الأول وانتقلت إلى المستوى الرابع جامعي، كنت سعيدة جداً في ذلك اليوم لدرجة اني كنت أمشي مبتسمة كنت دائماً اتفقد حذائي، لأزيح عنه الغبار بالمنديل الذي أحمله دائماً في حقيبتي، ولكن لأن ذلك اليوم كان مختلفاً بالنسبة لي قررت أن أذهب إلى (النُقلتي) حتى يزيح لي غب?ر حذائي بفرشاته، وكانت هذه أول مرة انظف فيها حذائي بدون استخدام المنديل الخاص بي فقط. ونظرت الى الجهة الشمالية من الشارع فإذا هي تكاد تمتلئ بهم، كانوا جميعاً منشغلين بعملهم، كأنهم لا يدركون ما حولهم، كأنهم حرموا على أنفسهم النظر إلى شئ غير الحذاء، وظللت انظر إليهم واحداً تلو الآخر، حتى وقع بصري على واحد منهم يبدو خالياً من الزبائن، وفوراً ذهبت نحوه، وألقيت عليه السلام، فرد عليّ دون أن ينظر إلى وجهي فقد كان منهمكاً في خياطة أرضية حذاء. فأردت أن أُزيح اهتمامه قليلاً عما بيده، فقلت هل يمكنني الجلوس؟ فأشار بيده إلى كرسي كان أمامه دون أن ينطق، وجلست ثم أعطيته حذائي وقلت له: (ورنشو لي) فأمسك الحذ?ء وحمل فرشاته ثم بدأ، كان ينظف الحذاء بقوة كأنه غير راضٍ عن مهنته هذه، أو انه يطمع إلى شئ أفضل ولكن لا يستطيع فعل شئ، كنت انظر في عينيه فأراهما تحدقان في شئ غير الحذاء، لا أدري فيما يفكر، ثم نظرت إلى الكرسي الذي أجلس عليه فإذا هو كرسي مصنوع من حديد كأنه تعمد أن يشتري هذا النوع من الكراسي حتى يتحمل جلوس الزبائن ويعيش لفترة طويلة،أو كأنه لا يريد ان يغير مهنته لذلك اختار هذا الكرسي فقد كان على عكس زملائه الذين يجلسون على كراسي بلاستيكية متسخة يظهر عليها البلاء والقِدم، اقدامها معوجه من كثرة الجلوس عليها. وحاو?ت ان اقطع عليه حبل تفكيره وسألته كيف تخيطون الأحذية؟ فرفع رأسه لأول مرة وابتسم ابتسامة بها مزيج من الدهشة والحيرة.. وقال لي (انتي فعلاً عايزة تعرفي؟) فأجبت: طبعاً.. ووضع حذائي جنباً، ورفع حذاء آخر وبدأ يشرح لي كيفية الخياطة وتجرد من ذلك الوجه الشارد الحيران وبدأ يشرح لي كأنه كان يحتاج إلى شخص يسأله يشعره انه انسان يستطيع ان يعطي كبقية البشر، ورغم اني لم أعرف كيف أخيط الأحذية مثله إلا ان سعادتي بأني قد ادخلت بصيص فرحة في قلب هذا الفتى كانت أكبر وقعاً في قلبي، وبعد ان انتهى من الشرح سألني: فهمت؟ فقلت أجل رغم?اني لم أفهم شيئاً، وأردف أيضاً هل تريدين أن تجربي؟ فقلت: نعم دون أن أدري هل سأستطيع أم لا المهم انه مد لي حذاءاً آخر وأعطاني اياه واذكر اني لم أستطع ان أدخل الابرة في أرضية الحذاء لأنه كان قوياً وأذكر أيضاً انه انفجر بالضحك عليَّ كأنه لم يضحك منذ سنين طويلة، وبدأت تظهر على علامات السعادة والاستغراب في آن واحد. وبعد ذلك قال لي: بعد ده جاء الدور على خدمتك انتي، فلمعها لي حتى أصبح لها بريق خاص، بريق ممزوج بصفاء وبراءة هؤلاء البشر. وأخيراً ودعته وقلت له سأكون زبونة لك، فرد لي: ان شاء الله، وبعد ان خطوت خطوة.. ?ال لي: يا أستاذة أنت أجمل زبونه قعدت قدامي، فابتسمت ابتسامة عريضة دون أن أتفوه بكلمة واحدة وذهبت. وفي اللحظة التي كنت أفكر في ذلك الفتى، لأني كنت أشعر ان هؤلاء الناس لن ينظروا إلى أعلى أبداً سيظلون ينظرون تحت أقدامهم دائماً، كنت متأثرة بهذا الموقف الذي أظنه أثر فيني كثيراً وحرّك أوتار الانسانية داخلي، فقد يكون هذا الفتى يتيم الأبوين، وغير متعلم، وليس لديه أصدقاء سوى الذين يعملون معه، يكتم أحزانه ومعاناته حتى أفراحه قد يكتمها. يعمل بصمت، ويضحك بصمت، دون أدنى شكوى أو ضجر، وأنا متأكدة ان وراء هؤلاء الناس حكايات كثيرة ومؤثرة تبكي من لا دمع له رأفةً وحزناً عليهم.