«المعسكر من الداخل يزخر بالحياة من محال تجارية بعضها يبيع اشرطة الكاسيت وثمة مكبرات للصوت تنطلق منها موسيقى افريقية صاخبة يرقص الاطفال على وقعها». للوهلة الاولى ، عندما تطأ قدماك معسكرات العائدين من الشمال الى جمهورية جنوب السودان من الجنوبيين بمنطقة ميناء كوستى النهرى بولاية النيل الابيض ، تتذكر معسكرات النازحين فى اقليم دارفور ، ذلك ان المخيمات التى يقطنها العالقون مصممة بنفس الطريقة المتنشرة فى دارفور ، بالمشمعات البلاستيكية التى تغطى الخيام المتراصة بنسق واحد ، وبطريقة منتظمة على طول المساحات الجانبية للميناء والطريق المؤدية الى المرسى النهرى. كما ان عددا كبيرا من المنظمات الطوعية العاملة فى المنطقة انشأت لها مكاتب خاصة لها ، ورفعت لافتاتها واعل?مها وسياراتها وموظفيها والعاملين من الشباب فهنالك منظمة الهجرة الدولية التى تقوم بالاشراف الكامل والتمويل لعمليات العودة ومنظمة اليونسيف ووكالة ادفتستريت للتنمية والغوث «ادرا»وهى وكالة يملكها مسيحيون متطرفون فى اوروبا وغيرها من المنظمات . هذا فضلا عن ان مفوضية العودة الطوعية والنازحين التابعة لولاية النيل الابيض انشأت لها مكاتب خاصة ببناء ثابت وبها موظفون يعملون بشكل دائم بالتعاون مع ممثلين اوفدتهم دولة جنوب السودان خصيصا لرعاية مصالح المنتظرين لفترة قاربت الثمانية اشهر. غير انه وعندما تقترب اكثر من التفاصيل الداخلية للمعسكر سرعان ماتبتعد صورة معسكرات النازحين فى دارفور وتحل محلها صورة اخرى للحياة المدنية بكل ماتحمل هذه الكلمة من معنى. فهنالك العديد من المتاجر الصغيرة التى انشأها بعض المنتظرين كيفما اتفق ، ويبيعون فيها السلع الضرورية من سكر وشاى وخبز وزيوت وغيرها. ويقول احد اصحاب هذه المتاجر الصغيرة ان الفكرة نبعت بعد ان طالت فترة المكوث فى الميناء وقررت ان انشئ هذا المكان الصغير «اذهب الى داخل المدينة فى كوستى واستجلب المواد الضرورية للعائدين وابيعها بهامش ربح بسيط بدلا?من ان يذهبوا الى هنالك مع بعد المسافة وانعدام وسائل النقل. . الطلب يكثر على السكر والشاى والدقيق عندما تأتى النقود من الخرطوم . . هنالك بعض الاقارب يرسلون لذويهم نقودا من الخرطوم من وقت لاخر». كما ان هنالك محلات للحلاقة واندية صغيرة للمشاهدة، واخرى لبيع اشرطة الكاست المحاطة باطفال يرقصون على انغام الموسيقى الصاخبة المنبعثة من مكبرات الصوت والتى تباع فيها الاغانى الغربية والافريقية بكميات كبيرة والسودانية بكميات اقل كما افادنى بذلك احد مالكى هذه المتاجر الصغيرة. وايضا يلاحظ كثرة الاماكن المتخصصة فى تحويل?الرصيد من الشمال الى الجنوب والعكس والسبب فى ذلك ان هذه التجارة كانت قد ازدهرت خلال فترة تغيير العملة فى الشمال والجنوب على حد سواء. وكان لافتا جدا وجود لافتات عالية جدا وضعتها بعض المنظمات ومكتوبة بالانجليزية وعربى جوبا تطالب المنتظرين باستعمال الواقى الذكرى «الكوندوم» فى حال قرر احدهم ممارسة الجنس، ومثل هذه الاعلانات منتشرة بكثرة فى جنوب السودان ولكن لاتوجد فى الشمال الا فى منطقة المنتظرين. وتقول تيريزا جاكسون والتى كانت تعد طعام الغداء لاطفالها لاتغرنك هذه المناظر فنحن قد عانينا الكثير والكثير منذ قدو?نا الى هنا قبل اكثر من 7 أشهر « تصور . . نحن منتظرين هنا قبل اعلان «الانفصال» وقالوا لنا لابد ان تذهبوا الى بلدكم لتعمروها وتنموها ، واتوا بنا الى هنا ، دون تجهيزات مسبقة فلا صوتنا ولاعدنا ولاذهبنا ، وكما ترى نحن عالقون هنا». هنالك مجموعات اخرى من العالقين ينتظرون بالقرب من محطة السكة حديد ، وهم اقل حجما ، واكثر بؤساً وشقاء من رصفائهم المنتظرين فى منطقة الميناء ، حيث يكثر عدد النساء المسنات والاطفال ، ويقطنون بالقرب من النهر وبعدد قليل جدا من المساكن. ويلخص جاثكوت كيلى وهو احد المتطوعين للخدمة وضعية هؤلاء العالقين بقوله: « طوال موسم الامطار ونحن نشكو من المياه الكثيرة والتى ادت الى اصابة العديد من الناس هنا بالامراض مثل الاسهالات والملاريا. . وكما ترى فان وضعنا هنا اسوأ من اولئك الذين فى منطقة الميناء فعدد المنظمات قليل جدا ? ولاتوجد مراحيض كافية ومعظم الناس يتبرزون فى العراء وهو احد اسباب الاصابة بالامراض ، وندعو المسؤولين بسرعة نقلنا الى الجنوب او تحسين الوضع الذى نعيش فيه حاليا». ويقدر عدد هؤلاء العالقين بنحو 15 ألف شخص منهم 13 ألفا فى منطقة الميناء النهرى طبقا لاحصاءات وكالة «ادرا» التى تقوم بعمليات التسجيل والرصد. ويقول مدير ادارة التسجيل بالوكالة ضوء البيت عبد الله ضو البيت ان عدد الذين تم ترحيلهم فعليا منذ اعلان انفصال الجنوب عن الشمال فى يوليو الماضى بلغ نحو 20 ألف شخص. ويوضح ضوء البيت قائلا : «المشكلة ان عدد المنتظرين حاليا غير ثابت وهو متحول بحسب الاوضاع فهنالك اشخاص يصلون الى الموقعين عندما يسمعون ان هنالك قطارا قادما او صندلا وصل من الجنوب لنقل الناس ، وتبدأ اعداد المنتظر?ن فى النقصان عندما تطول فترة الانتظار ويعود بعضهم غافلا الى الخرطوم او الولايات الشمالية الاخرى». اما مفوض العودة الطوعية والنازحين بولاية النيل الازرق محمد عبد الرازق فيقول ان السلطات المحلية وبالتعاون مع حكومة دولة جنوب السودان والمنظمات الطوعية تبذل قصارى جهدها لنقل العالقين الى الجنوب ، وكما تلاحظ فان عمليات العودة بدأت تنشط من جديد بعد ان وفرت منظمة الهجرة الدولية التمويل اللازم لذلك. ويكشف عبد الرازق عددا من المعضلات التى تجعل عمليات العودة لاتسير بسلاسة وبحسب مايخطط له « هنالك مشكلتان كبيرتان توا?هان عمليات العودة الطوعية الاولى كثرة وكبر حجم الاثاثات التى يحملها معهم العائدون ، فهى لاتتناسب مع عدد الاسر المسجلة حيث يصر الجميع على نقل كل متاعه معه. . اما المشكلة الثانية فهى ان بعضهم حول الامر الى تجارة حيث يجلبون معهم كميات كبيرة من جوالات الدقيق والسكر وغيرها من المواد التجارية بغرض نقلها معهم وهو امر غير مقبول». واوضح المفوض ان هنالك خطة موضوعة لنقل نحو 3 آلاف عالق خلال الفترة القريبة المقبلة « هنالك صندلان قادمان من الجنوب سنقوم بتخصيص احداهما للناس والاخر للاثاث ، كما ان هنالك قطارا سيتحر? من الخرطوم لنقل العائدين من الخرطوم ومن المنتظرين هنا الى الجنوب». اما ممثل حكومة دولة جنوب السودان جاكسون جوزيف الذى جاء خصيصا من جوبا لرعاية مصالح هؤلاء العائدين فلم يجد غير تعويذة الصبر ليحث العالقين الغاضبين على الانتظار بقوله «لقد ابتعثتنى حكومة الجنوب من اجل ان اشرف على عمليات العودة لهؤلاء المنتظرين ، واقول لهم ان حكومتنا ستفعل مابوسعها من اجل ان يعودوا بسلام وفى القريب العاجل. . فقط اطلب منهم ان يتحلوا بالصبر».