تدور أحداث رواية «موسم الهجرة» إبَّان الفترة الاستعمارية وحتى بعيد الاستقلال «1898م 1958م». وتناولت جيلين من الأجيال السودانية، فالجيل الأول: هو الجيل الذي عاصر الاستعمار البريطاني، ونشأ تحت كنف الانجليز، واستفاد من المرافق التعليمية والثقافية التي قدمت له، وتلقى الصدمة الحضارية والفكرية الاولى، فأثرت سلبا وايجابا على سلوكه في الحياة. اما الجيل الثاني فهو جيل وريث الاستقلال، وما خلفه المستعمر من صراعات اجتماعية وثقافية وفكرية في السودان، فتحولت التركة عند البعض الى صراع سياسي على المغانم والمكاسب، وعند البعض الآخر الى اقتتال من أجل الانفصال والتشرذم. ولهذا لا بد من إعادة ترتيب الحوادث وفق المنظور الزمني التصاعدي، وليس كما جاء في الرواية. فالبداية في الرواية أن مصطفى سعيد ولد في 16/8/1898م، وهو نفس العام الذي دخلت فيه قوات كتشنر ام درمان وهزمت قوات المهدية. ولا يخلو هذا التاريخ من الدلالة الرمزية. ومات ابوه قبل أن يولد ببضعة اشهر، فنشأ يتيما ولم يكن له اهل سوى امه، وحتى امه لم يستطع ان يحدد علاقته بها او يشعر تجاهها بعاطفة مثل غيره من الأطفال اليتامى. وكان يتخذ قراراته بمحض ارادته، وفي المدرسة سرعان ما اكتشف في علقه مقدرة عجيبة على الحفظ والاستيعاب والفهم، ومن ثم تلقفته ايدي الانجليز ودفعوه لطلب المزيد من العلم وهو في سن الثانية عشرة، تماما كحال الثورة المهدية التي لم يمض عليها سوى اربعة عشر عاما من تحرير الخرطوم 1885 وحتى دخول جيوش الاحتلال.. وحط رحاله في القاهرة، فوجد مستر روبنسن المشرف وزوجته في انتظاره. ومكث في القاهرة ثلاث سنوات، ثم قاده النداء الغريب الى ساحل الدوفر، والى لندن، والى المأساة، وحمله القطار الى ساحل فكتوريا، والى عالم جين مورس. وهكذا تبدأ احداث الرواية الاولى، على أساس أن الرواية عبارة عن روايتين متداخلتين.. قصة الراوي المنتمي الى ما بعد جيل الاستقلال، وقصة البطل المحوري «مصطفى سعيد» المنتمي الى عهد الاستعمار. وتأتي الاحداث الروائية في القسم الاول منها عنيفة جادة معبرة عن حال المثقف العربي الباحث عن ذاته الضائعة، وعن وجوده باعتباره شيئاً له معنى في بلاد تموت من البرد حيتانها.. ونتيجة للمفارقة التي تولدت من الهوة الحضارية والفكرية ما بين المشرق والمغرب، وما بين الطموح والواقع والوعي واللا وعي، سنرى أن هناك ثلاثة أحداث في حياة مصطفى سعيد جديرة بالاهتمام والتوقف عندها في الزمان والمكان اللندني. الحدث الأول أنه تتلمذ في الجامعة على دهاقنة الانجليز ومنظري الخطط الاستعمارية لبلدان العالم الثالث، كبروفيسور «ماكول» وهو من المؤسسين لحركة التسلخ الخلقي في أكسفورد ومابيوني، وعضو في اللجنة العليا لمؤتمر الجمعيات التبشيرية البروتستانية في إفريقيا، وأراد استقطاب مصطفى سعيد إلى حظيرة الماسونية بغطاء الحضارة والمدنية والمثاقفة لإفريقيا الجديدة، ومن ساوره الشك في ولاء تلميذه لم يخف كراهيته له «أيام تتلمذي عليه في أكسفورد كان يقول لي في تبرم واضح أنت يا مستر سعيد خير مثال على أن مهمتنا الحضارية في إفريقيا عديمة الجدوى، فأنت كل الجهود التي بذلناها في تثقيفك كأنك تخرج من الغاب لاول مرة». أما الحدث الثاني فهو العلاقات العاطفية، وبعبارة ادق العلاقات الجنسية التي عاشها مصطفى سعيد في لندن حيث كانت النساء تتساقط عليه كالذباب، فقد جلبهن من جيش الخلاص ومجتمعات الفابيانيين، منهم آن همند وشيلا غرينود وايزبيلا سيمور. أما الحدث الثالث فهو المحكمة، وهي تتويج للحدثين السابقين، وجدلية مترابطة لما تقدمها، فالمحكمة لم تكن حكما على رجل مجرم انصبت حياته كلها على طلب اللذة وتسبب في انتحار فتاتين وامرأة متزوجة وقتل زوجته، بل المحكمة في نهاية المطاف هي محكمة فكرية بين عالمين تفصل بينهما هوة عميقة ليس لها قرار. ومن هنا جاء صراع المحامين على شخصية مصطفى سعيد الفكرية، وقضت المحكمة على الفكر والحضارة العربية بالسجن في عقله الجمعي.. والشاهد التاريخي في قاعة المحكمة الكبرى بلندن «حيث جيء لكتشنر بمحمود ود أحمد وهو يرسف في الأغلال بعد ان هزمه في موقعه اتبرا، قال له: لماذا جئت بلدي تخرب وتنهب؟ الدخيل هو الذي قال ذلك لصاحب الارض وصاحب الارض طأطأ رأسه ولم يقل شيئا، فليكن أيضاً ذلك شأني معهم، إنني أسمع في هذه المحكمة صليل سيوف الرومان في قرطاجة وقعقعة سنابك خيل النبي وهي تطأ القدس، والبواخر هزت النيل اول مرة تحمل المدافع لا الخير، وسكك الحديد انشئت اصلا لنقل الجنود، وقد انشأوا المدارس ليعلمونا كيف نقول «نعم» بلغتهم. ويأتي الجزء الثاني من الرواية ليتشابك مع الجزء الاول، الا ان طبيعة الصراع عند جيل الاستقلال اقل حدةً وعنفوانا من الجيل السابق، إذ كان موقفه من الفكر والحضارة الغربية متسما بالاعتدال والتأمل، ولم يرَ في الحضارة الوافدة والمدنية الاوربية شرا يجب الابتعاد عنه او أداة خصام كما هو عند جيل الاستعمار، بل كان الاستعمار برمته يمثل عملا ميلودراميا سيتحول مع مرور الزمن الى خرافة. وانتهت الرواية إلى مفاد هذه الفكرة بعد عودته من اوربا، ليقرر حقيقة في نفسه كونه من هنا، وانه ليس ريشة في مهب الريح، ولكنه مخلوق له اصل وله جذور وله هدف، فيشعر بالطمأنينة.. فالراوي الباحث عن الطمأنينة والاستقرار ايماءة موحية وانعكاس صراخ لما يعتمل في نوازع النفس وصراعها الداخلي كأنه والحالة هذه في قفص الاتهام، فسارع إلى الهجوم ونفي التهمة، فأراد أن يثبت حقيقة تواصله وامتداد جذوره، وأنه يتحمل المسؤولية ورعاية الأمانة، وجدير بقيادة البلد بما يمتلكه من مؤهلات علمية وأكاديمية. ومن هنا يتحدد دور الراوي، وبالتحديد يبدأ من حيث انتهى مصطفى سعيد، إلا أنها بداية تأملية وفلسفية فاترة اكثر منها عملية منطقية جادة، وبالمقابل يفهم العالم لكنه لا يغيره، ومن ثم شكلت النظرة التأملية الفاترة رؤى جيل الاستقلال، وحددت موقفه من الفكر والحضارة الغربية «هل كان من المحتمل أن يحدث لي ما حدث لمصطفى سعيد؟ قال إنه اكذوبة فهل انا ايضا اكذوبة؟ انني من هنا اليست هذه حقيقة كافية؟ لقد عشت أيضا معهم، ولكني عشت معهم على السطح، لا أحبهم ولا أكرههم» وهذا موقف حيادي «أحبهم ولا اكرههم»، وهناك مثل هنا، ليس احسن ولا اسوأ، وهو في جوهره رؤية سلبية ومدخل موضوعي لقبول الفكر الدخيل والحضارة الوافدة. وقد تلت هذه الخطوة خطوات بوتيرة متسارعة نحو الانفتاح باتجاه الحضارة الغربية، وبدءاً برمز الاستقلال مجسداً في قاعة الاستقلال التي جاءت طبقاً لمواصفات الحضارة الوافدة، ورسمها الحديث بعيدة كل البعد عن امتداد وتواصل الموروث الثقافي المحلي، ومقطوعة الجذر عن الهوية السودانية، ثم مرورا بالتملص من الاعباء المستقبلية والتخلص من الامانة التي اؤتمن على عنايتها ورعايتها كتربية الوالدين، المستقبل، وان يجنبهما مشقة السفر «إنني لم افعل شيئا من هذا القبيل اذا ارادا حين يكبران ان يسافرا فليسافرا». وقدم الطيب صالح من خلال حركة الشخصية المحورية، اجابة صادقة وعميقة عن الصراع النفسي الذي ظل هاجسا وشاغلا لبال الجيل المثقف الباحث عن ذاته في حضارة وفكر الآخر، وأن هذه الحضارة الغربية عصية المنال لا تستسلم بيسر وسهولة، الا اذا جردت طالبها من روابطه الحضارية، وفصمته عن قيمه الثقافية، وقطعته عن جذوره التاريخية، فهي حضارة تنفي كل ما عداها. وقد استخدم الكاتب الوسائل التقليدية الى جوار التكنيك الروائي الحديث، ولعل بناء الرواية على هذا الشكل أسهم في إبراز المضمون الذي رمى اليه الكاتب، فأقام الوحدة العضوية بين المضمون والشكل الفني الذي اختاره، ليؤطر به محتواه الفكري. وتأتي لغة السرد شديدة التكثيف، تقترب من لغة الشعر في استخدامها المجاز والرمز، ويصبح الايقاع الموسيقي سريعاً وذا نبرات حادة منسجماً مع مأساة مصطفى سعيد. أما الزمن فهو من خلال تشابكه ما بين الماضي والحاضر والمستقبل، دليل صارخ على مدى التمزق النفسي الذي يعانيه المثقف العربي نتيجة الصدمة الحضارية التي تلقاها، فكشفت عن بعد الشقة ما بين الواقع المتخلف والماضي العريق الزاهر، مع ضبابية الرؤية نحو المستقبل.. فمصطفى سعيد وهو في قمة المأساة يستنجد بالماضي ويستدعي استحضاره عبر التداعي. «تخيلت برهة لقاء جنود العرب لاسبانيا، مثلي في هذه اللحظة أجلس قبالة ايزابيلا سيمور، وفي الزمن الحاضر دخل مصطفى سعيد في مباراة مع الزمن، وحاول أن يقطع الأشواط الحضارية قفزاً واختصاراً للمسافات التي قطعتها أوربا من خلال الاجيال الحضارية، اعتقادا بأن الحضارة لا تضغط وتكثف في اقراص تبتلع ابتلاعا، فاصيب بعسر الهضم، ونال منها الاعوجاج في عواطفه والالتواء في تفكيره.. وأخيراً الضياع والتيه في أصقاع العالم، ويعود إلى أرضه وجذوره، ليبدأ البداية الصحية باعتباره شيئاً له معنى، ويبذر بذور التغيير في المستقبل، إلا أن التاريخ عند جيل الاستقلال جاء في البدء مقروناً بالتفكير الهادئ والموقف المتزن إزاء الفكر والحضارة الغربية، وتحول هذا الموقف المعتدل إلى رؤية تأملية فاترة، إن لم تكن عاجزة أمام طغيان الفكر الغربي والحضارة المادية، فكان الاستسلام والتسليم بالأمر الواقع، وجاء الاختيار أخيراً بعد المماطلة والتسويف منسجماً مع الروح الانهزامية باتجاه شواطئ الشمال.