تباينت الآراء حول الانتخابات بين من يدعو إلى تأجيلها لأسباب ترى المعارضة أنها موضوعية لإحداث تحول ديمقراطي حقيقي، وبين من يرى قيامها في موعدها لاستحالة عملية التأجيل وفق مجريات الأمر الواقع. وأصبح الناخبون ينتظرون ما سيفضي إليه اجتماع الرئاسة الذي علقت المعارضة عليه اتخاذ قراراها. إزاء هذا الجدل الانتخابي برزت عدة مؤشرات أهمها: أن المجتمع الدولي وعلى رأسه الولاياتالمتحدة الأميركية لا تهمهم صحة أو نزاهة الانتخابات، بقدر ما يهمهم إنتاج حكومة جديدة تجري الترتيبات اللازمة للاستفتاء على تقرير مصير جنوب السودان الذي تشير كل الدلائل إلى أنه سيصبح دولة مستقلة. وبالفعل بدأت عدة دوائر غربية متعاطفة مع مواطني الجنوب في إعداد الخطط والدراسات اللازمة لمساعدة الدولة الوليدة المتوقعة بعد الاستفتاء. ولعلَّ التصريحات الأخيرة التي أدلى بها غرايشون حول ضرورة اتمام الانتخابات على هذه الخلفية، بثت الحماسة والإصرار في أوساط قادة المؤتمر الوطني، وهو ما دفع السيد نافع علي نافع إلى استخدام أسلوب جديد من الاستفزاز اللفظي ضد المعارضة، بدرجة خرجت عن المألوف وتتنافى مع تقاليد العمل السياسي الموروث، وكأن السودان ضيعة خاصة يملكها المؤتمر الوطني. وقد برع السيد نافع في تقمص «وجه القباحة» وهو أسلوب لا يحترم قيم السودانيين وتاريخ العمل السياسي، ولا يعين على الخروج من نفق الأزمة، خاصة أن هناك تحديات ومخاطر كبيرة تنتظر على الرصيف، ولا بد من مواجهتها من خلال حشد جميع طاقات المجتمع السوداني بكل طيفه السياسي لمجابهتها. وقد جرَّب السيد نافع وحزبه خلال عشرين عاما عواقب الانفراد بالقرارات غير الموفقة بسبب عزل الآخرين التي كلفت السودان ثمنا باهظا، فالانتخابات المرجوة بالطريقة التي يرسمها المؤتمر الوطني بمشورة نافع دون إجراء حوار جدي مع الآخرين والوصول إلى صيغة تؤسس لديمقراطية مقبولة للجميع، سوف لن تضيف جديداً لمشهد السنوات العشرين الماضية التي انتهت بالسودان إلى المحكمة الجنائية، وهيأت الظروف والأسباب لقيام دولة جديدة في جنوب الوطن، وحولت دارفور إلى مشهد بائس في فضائيات العالم، وفتحت أبواب البلاد للقوات الأجنبية «30» ألفا، أي بأكثر مما كان على عهد الاحتلال البريطاني. ولعلَّ الغرض من قيام الانتخابات كما يراه أهل السودان، هو أنها ستؤسس لمرحلة ديمقراطية تنظم تداول السلطة، وتجنب البلاد المزيد من المخاطر والتداعيات، وتسعى عبر حوار ديمقراطي إلى إيجاد حلول عاجلة للجراحات المفتوحة في دارفور وعبر حدود السودان الجنوبية. وليس الغرض بالطبع هو إعادة إنتاج الشمولية بثياب مدنية، والتمادي في سياسات الإقصاء وإشعال بؤر التوتر.. لذا فمن المفيد جدا أن يدرك المتشددون داخل المؤتمر الوطني، أن هذا الطريق غير مأمون العواقب في بلد مثل السودان يتآكل من أطرافه. لقد أصبح واضحاً أن الغاية من الانتخابات لدى المؤتمر الوطني ليست هي الإيمان بالديمقراطية وحق الآخرين في المشاركة السياسية والتبادل السلمي للسلطة، وإنما فقط لأن اتفاقية السلام التي فرضها المجتمع الدولي قد نصَّت في أحد بنودها على قيام «انتخابات» تعد نتائجها المسرح لفصل جنوب السودان عن شماله. وهو الاتجاه الذي يدلل عليه المتشددون من خلال تصريحاتهم وعباراتهم. ولعلَّ هذا ما يفسر أيضا استغلال الحزب الحاكم لمؤسسات وموارد الدولة ومالها العام، وتجنيد المؤسسات والمنظمات لإبقاء هيمنته على مفاصل الدولة، ومواصلة المسيرة بالتناغم مع الأحزاب الوهمية «أحزاب الرجل الواحد» التي يغدق عليها المؤتمر الوطني من المال العام. وكما قال عيسى عليه السلام «بثمارها تعرفونها». وكان أمل السودانيين أن تمثل هذه الانتخابات مرحلة جديدة تجدد الأمل، وتحافظ على ما تبقى من تراب الوطن الذي انتقصته السياسات الخاطئة، ليصبح السودان جمهورية ديمقراطية تتسع لجميع أبنائه، لكن ما يعبر عنه السيد نافع من تصريحات وسياسات لا تقيم وزنا للآخرين، ستعيد البلاد إلى المربع الأول، وكأن السودان في حاجة إلى مزيدٍ من الأزمات. وما بين تأسيس جمهورية ديمقراطية لكل السودانيين وتثبيت جمهورية نافع، تبقى نزاهة الانتخابات وشفافيتها هي الفيصل، وإن أضحت صعبة المنال. / واشنطون