آخر حاكم انجليزي لمدينة أم درمان واسمه (دنكان Duncan) اصدر عام 1956م بعد مغادرته لبلده كتابا اسماه «طريق السودان إلى الاستقلال» أصدره بالانجليزية، عبر فيه عن تقديره كسائر الانجليز الذين خدموا في السودان، ثم عن حبه وتقديره الخاص لمدينة امدرمان العاصمة الحقيقية للسودان- كما اسماها، ولكن المهم هنا انه بخلاف مراسلي الصحف البريطانية الذين غطوا الانتخابات الأولى لتقرير مصير السودان التي أجريت عام 1954، أثنى على السلوك المنضبط والحازم بخلاف ما كان قد شهده في الهند ونيجيريا، وردد ما كان قاله «كبلنج» الشاعر الإمبراطوري الشهير «بأنهم شعب يواجه الموت نفسه بحزم وابتسام». ٭ وعندما عكفت على دراسة الصحافة في السودان منذ صدور صحيفة «السودان» عام 1921م وحتى الاستقلال عام 1956م، وكنت قد استعنت بأقطاب الصحافة السودانية «يرحمهم الله» وهم الأساتذة إسماعيل العتباني- ناشر صحيفة «الرأي العام» وبشير محمد سعيد ناشر- صحيفة «الأيام» وزين العابدين حسين شريف- ناشر صحيفتي «النيل» و«الأمة»... أقول لفت نظري بل لفت نظر علماء الإعلام المشهورين في مصر وهم: الأستاذ الدكتور مختار التهامي والأستاذ الدكتور عبد الملك عودة والأستاذ الدكتور سامي عزيز .. لفت نظرنا جميعا في صحافة السودان منذ «الحضارة» عام 1921م وحتى «الصحافة» في يناير 1956م، سمات محددة نذكر منها: ٭ التركيز على المقال والتدارس والرأي أكثر من الاهتمام بالخبر والتحقيق وما وراء الخبر. المقدرة البالغة على التحليل العميق والتضمين العملي للمصادر وانواع الاستشهاد. ولفت النظر كذلك الإلمام المدرك لعالمهم وما يدور حولهم، خاصة في مراكز القوى الرئيسية في تلك الفترات، وهي بريطانيا والإمبراطورية الفرنسية، ثم ما كان يدور في بدايات صحوة شعوب المستعمرات في أقطار آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية، وما كان يدور فيها من صنوف المقاومة والنضال في مواجهة الغزاة المستعمرين من الانجليز والفرنسيين والألمان والروس وغيرها، فمثلا كانوا يهتمون ويركزون على أسلوب المقاومة «السلمية» التي ابتدعها المهاتما غاندي في الهند. ثم أسلوب «ثورة القرى الريفية» الذي لجأ إليه الشعب الصيني في مقاومة الاستعمار البريطاني، مستغلين لذلك المساحات الشاسعة للصين مع ضخامة السكان، بما شكل ضغطاً في مواجهة المستعمرين الانجليز لمقاومة الشعب الصيني. كما اهتموا بالقضية الفلسطينية لدرجة إرسال المتطوعين للقتال هناك، بل كتبوا عن «اندونيسيا» المسلحة بشكل قوي مدروس. وذكر هؤلاء العلماء ضمن المناقشة العلنية المشهورة لرسالة الدكتوراة، أن تلك الأجيال من الصحافيين والقيادات الوطنية، وظفوا دراساتهم للغة الانجليزية باعتبارها سلاحاً في خدمة قضايا وطنهم ومنطقتهم، بما لم توفق اليه معظم الصحافة العربية المعاصرة. وهنا اذكر أن استأذنا «إسماعيل العتباني» وهو ضمن المصادر الرئيسية التي اعتمدت عليها، اذكر انه لفت نظري في جانب الملاسنات الهادفة التي كانت تلجا إليها الصحف الحزبية خاصة في انتخابات الجمعية التشريعية عام 1948م وانتخابات عام 1954م، لفت نظري الى التوظيف للفكاهة في الملاسنات من مثل «فاتحة أبو علوة... تصرف عند أبو عبدة» وأبو علوة يقصد به السيد علي الميرغني الراعي للختمية وأحزابهم، وأبو عبده يقصد به السيد عبد الرحمن المهدي الراعي للأنصار وأحزابهم، والدلالة أولا الغمز باستخدام المال والحاجة اليه في الانتخابات، ومع ذلك يغمزون بما كان يتداول في تلكم الفترات عن «إمساك» السيد علي الميرغني. وقد لاحظت بالتتبع لأعداد صحف «الأمة والنيل وصوت السودان الجديد والأشقاء والمؤتمر» الصادرة في الخمسينيات في ما يتصل بالانتخابات والحملات وأنواع التحشيد للاتباع والناخبين، ملاحظات نتطرق اليها في الحلقة القادمة.