الشاهد أن النظام الإسلامى في السودان يختلف عن تونس اختلافاً كبيراً من حيث الفكر السياسي والتطبيقي لكل من الشيخين علماً بأن التجربة التونسية نقيمها من خلال الاطار السياسي لحزب النهضة الذي سطره الغنوشي، لذلك فالاعتماد الآن على الجانب النظري والذي نأمل أن يطبق عملياً وفقاً لفرضيات الفكر السياسي لفكر المرشد والمنظم ، أما التجربة السودانية تعانى أزمة حادة تتمتع بالشرعية ولكنها تفتقر الى المشروعية التي تتمثل في عدم رضا الجماهير عنها، علماً بأن الشارع السوداني ينفعل بشعار الإسلام وأن الحزب الحاكم هو الأعلى صوتاً ?لكنه في ذات الوقت لا يمتلك برامج ومشروعات لحل مشكلات المواطن السوداني . وهذا يتضج جلياً من الغلاء الطاحن الذي أصاب البلاد جراء السياسات الخاطئة وتدهور الخطاب السياسي ، ورغم ذلك فان القوى الحاكمة توجه الشارع السياسي بالشعارات العاطفية التي تهز الوتر الإسلامى داخل كيان المواطن وليس بالمشروعات المتكاملة والواقعية ، لذلك ينبغي عدم الركون للبعد النظري للتنظيم وخاصة بعد تطبيقات الحكم الإسلامى المعاشة الآن في الخرطوم، فالاهتمام بالجانب العملي يساعد التجربة التونسية وغيرها في تجاوز الاخفاقات والانتكاسات التي وقعت?فيها التجربة السودانية . وطبيعي للسلطة رد بأنها جاءت بارادة الشعب وهذا يتنافى مع قول الشيخ الترابي الذي يرى أن الديمقراطية قاصرة على العلاقات السياسية ولا تجدي شيئاً في علاقات الناس من تكامل وتكافل وتضامن، ويرى أن الانتخابات قليلاً ما تمثل الشعب تمثيلاً صادقاً ، ويشير الشيخ الترابي الى قلة مشاركة الناس في الاقتراع ، موضحاً دور المال في تزييف ارادة الشعب ، استفاد الترابي من تجربته الاخوانية ، مضيفاً اليها خبرته كعميد لكلية القانون ثم عضو مراجعة القوانين في نهاية عهد النميرى ليؤسس فكرته من جديد على قواعد تنظ?مية دستورية ويحدد مشروعه وأهدافه ووسائل تحقيق الغايات التي ينشدها ، أما وثائق المؤتمر التأسيسي فقد وضحت في خطاب الأمين العام للتنظيم كل ما هو غامض في استراتيجية الجبهة الإسلامية وفكر الترابي ومنهجه السياسي وتبلور موضوع الدولة وأهمية القانون في مجتمع واسع الأطراف معقد التركيبة العرقية، وعلى حد وصف الشيخ مجتمع ضعيف غير متكامل في بنيته التاريخية والثقافية . اضافة الى أن الشيخ تحول الى لاعب كبير في تقرير الصياغة القانونية للدولة وبدأ نظام الرئيس نميرى يعمل له ألف حساب مما دفعه الى الاعتقال قبل سفره الى واشنطن ?لك الزيارة التي لم يرجع الرئيس بعدها للبلاد لاندلاع الثورة الشعبية التي غيرت صورة النظام والمهم خروج الشيخ من المعتقل بطلاً ، وضع الشيخ استراتيجية للوصول للسلطة وبرزت الحساسيات بينه وبين القوى الإسلامية التقليدية التي تمثلت في الختمية والأنصار والقوى الإسلامية الأخرى الاخوان والتيار السلفي والمتصوفة وتبلور الصراع على بند قوانين سبتمبر اذ طالبت الأحزاب الإسلامية التقليدية بالغائها بينما تمسك الترابي بها محاولاً الفصل بينها وبين الحاكم ، لذلك يجب علينا أن ندرك أن البنية السودانية قديمة والعلاقات التقليدية ه? السائدة فيه وفى النهاية تلعب الدور الأساسي في انتاج السلطة وسياستها، علماً بأن البلاد تتألف من عشر مجموعات عرقية وقبلية كبيرة تنتشر بين جنوبه وشماله وشرقه وغربه وتتركز الاكثرية الساحقة في وسطه وهى أكثرية ريفية غير مدنية في غالبيتها وهذا أمر يساعد كثيراً على محاصرة اى تحول سياسي حديث سواء جاء بواسطة الانتخابات الديمقراطية أو عسكرياً ، بيد أن الشيخ لم يعمل حسابا لتلاميذه ولم يضع في حساباته أنهم سوف يشقون عصا الطاعة يوماً ما رغم أنه صنع الانقلاب العسكري تحت مظلة الانقاذ وعلى حد قوله ذهب للسجن والرئيس للقصر?وأصبح التنظيم رديفا للجيش ، والسؤال المهم لماذا فعل الترابي ما فعله على الرغم من علمه بخصوصيات البلاد ذات التركيبة القبلية والطائفية والريفية ؟ وأخيراً تحكم العلاقات التقليدية بالسياسة العامة للدولة وقيادتها للقوى الحديثة والمعاصرة ؟ وبالمقارنة لفكر الشيخ راشد الغنوشي أقدمت حركة النهضة في مؤتمرها الأخير عن اصدار وثيقة انقلابية تحدثت فيها عن مبررات وجودها وتجربتها المرة وسياساتها الصحيحة والخاطئة وأهدافها ، الوثيقة متواضعة الأهداف تناولت العديد من المسائل التي تهم التنظيم واصلاح مساره ونصت على حقوق الانسان ?ضمان حرياته وترسيخ هوية البلاد واصدار عفو تشريعي، ومن اجل تحقيق الانفراج العام لابد من رد المظالم ورد الحقوق والحريات واحترام الصحافة، وهذا بالطبع تفتقده التجربة السودانية التي مازالت تضيق الخناق يوما بعد يوم مما جعل الفجوة عميقة بين القمة والقاعدة وأصبح التنظيم صفويا تحكمه الصفوة ، جاءت وثيقة تنظيم النهضة باعادة قراءة التجربة واستخلاص الدروس ونقد الأخطاء والسياسات وبتحليل أسباب تأسيس النهضة تلاحظ الربط بين التحديث وتغول الدولة ومصادرتها للمجتمع وسيطرتها الشمولية والكلية على مؤسسات الحياة المدنية والأهلية ?ما مدى تأثير ذلك على شعبية التنظيم ؟ تمثل أفكار الشيخ الغنوشي ومواقف حزبه خطوة مهمة في سياق ادراك الفترة التي تمر بها السياسة التونسية فالحديث عن مجتمع التراضي والديمقراطية التوافقية يشكل بداية طيبة للتسوية السياسية لتنظيم حياة سلمية مما يقلل من مخاوف النخبة العسكرية المستبدة لذلك يحاول الغنوشي المزج بين فترتين لابد من التعايش بينهما لصياغة تصور سياسي يمزج بين وعيين متناقضين لابد من تفاهمهما معاً لضمان استمرار واستقرار الوضع السياسي ، ويبدو أن الشيخ الغنوشي يحاول الاصلاح ببطء ودراسة ووعى لضمان وصوله ، عكس?تجربتنا السياسة التي سارت بخطى سريعة وكأنها تنشد التغيير الكلى الذي أضر بمصلحة البلاد لسرعة القرارات بغية التحول المضر فقد أزال التنظيم في أيامه الأولى سمات ممتازة من بعض المؤسسات وحتى الأفراد تمت احالتهم للصالح العام دون أسباب مقنعة فجاءت القرارات ضد مصلحة التنظيم . على الشيخين أن يعرفوا ولاشك وفي معرفتهم تأتى قضية الإسلام كمرجعية ، لابد أن يترتب على ذلك عدم التسليم بالغاء التعدد الديني الموجود في مجتمعاتنا فالإسلام اعترف بمبدأ «لا اكراه في الدين» وأول مجتمع لدولة المدينة اعترف فيه النبي «صلى الله عليه ?سلم» « بحقوق المواطنة لكثيرين يعنى أن المرجعية الإسلامية قديمة والسؤال الذي نجيب عليه لاحقاً ماذا تعنى ضرورة التسليم بالمرجعية الإسلامية . والله المستعان .