الف ومائة جنيه هي راتب دكتور عبد الرحمن بإحدى الجامعات السودانية الكبيرة، فهذا المبلغ لا يساوي ربع راتبه الآن حيث استقربه المقام خارج البلاد، وهو الآن يملك منزلا في احياء الخرطوم وعربة فارهة، وفي السابق كان يستأجر منزلاً متواضعاً بضاحية الجريف، فالامر هنا لا يحتاج الي مقارنة، وهذا نموذج من بين آلاف اساتذة الجامعات الذين قرروا حزم امتعتهم لبناء انفسهم بعيدا، فخلال الاعوام الاخيرة هجر البلاد حوالى «2500» استاذ جامعي، وقد اثار هذا الرقم جدلاً كثيفاً حول خطورته ووصفه خبراء بالمخيف. وثمة مؤشرات واضحة تنذر بأن هناك فقراً سيجتاح الجامعات السودانية من حيث الكادر المؤهل، فالوضع التعليمي لأساتذة الجامعات لا يشجعهم على البقاء داخل ارض الوطن التي ضاقت بهم اقتصادياً وسياسياً، وفضلوا الهجرة خارج السودان إلى دول أفضل حالاً تعطي التعليم والبحث العلمي مكانته، لكن هنا يختلف الأمر تماماً، فشعور هذه الخبرات التي هي الآن خارج السودان بأن هناك فرقاً كبيراً مقارنة بوظائف اخرى من اقوى اسباب الهجرة، بجانب انهم بعيدون عن المشاركة في ادارة الدولة بمختلف تخصصاتهم، فهم لديهم ما يقدموه الى البلاد ولكن..!! وما بين تلك الدوافع والمغريات المقدمة من مختلف الجامعات العالمية، غادر في الاعوام الاخيرة حوالى «2500» استاذ جامعي من حملة الدرجات العليا وذوي الخبرات الطويلة، واحتضنتهم افضل الجامعات العالمية، ووفرت لهم ما لم يجدوه في السودان وفقاً لخبراء في هذا الشأن، وحتى الذين لم يهجروا البلاد واحيلوا الى المعاش بقيت بينهم نماذج تدعو للوقوف عندها.. ويبدو أن هجرة هذه الارقام المخيفة من الخبرات السودانية في مجال التعليم العالي لا تشكل هاجساً للدولة، وتظهر عليها علامات الثقة بأنها ستعوض هذه الكوادر التي قللت من خطورة هجرتها، مبررة ذلك بأن الكوادر الموجودة في السودان اكثر من تلك التي هاجرت، فهل هي محاولة للهروب من الواقع؟ وانها لن تعاني نقصاً في الاستاذ الجامعي في وقت قريب؟ وما هي استراتيجيتها لاسعاف الجامعات بعد أن فقدت اميز كوادرها؟ وكم من الوقت تحتاج حتى تصنع كوادر مؤهلة لتخرج بالتعليم العالي من هذا الوحل؟ وما لم يخطر على بال أن يكون استاذ وباحث جامعي في درجة البروفيسور، يجلس في احد الاكشاك ليقضي يومه في بيع الكتب، هذا لأنه آثر البقاء على الذهاب الى الخارج، فهل تتنازل الدولة عن خبراتها بهذه السهولة؟ ذهبنا اليه اكثر من مرة في مكانه للحديث اليه، ولكنا وجدناه منشغلا، ولكن لا بد من الحديث اليه حتى نعلم لم هو في ذلك المكان الآن، ولن نيأس، فبقاؤه هناك ظل محلك سر للجميع. وقبل نهاية العام الماضي هجر أكثر من 600 أستاذ جامعي من حملة الدكتوراة الجامعات السودانية، لأسباب اقتصادية بالاضافة الى عدم إشراكهم في اتخاذ القرار في الدولة في مختلف القضايا، وقالوا إن ظروفهم الاقتصادية طاحنة، وهذه الخطوة تأتي في اطار البحث عن فرص عيش أفضل، ولم يكن ذلك ليأسهم وفقدانهم الأمل في إحداث تغيير على مستوى الجامعات التي باتت منهكة، وكذلك المجتمع بشكل عام. وكان أستاذ الفيزياء بالجامعات السودانية عبد المنعم أرتولي في حديث ل «الشروق» قد قال إن العمل في الجامعات بعد الترهل الكبير الذي شهدته أصبح فيه مشقة، وأن الأساتذة الذين هاجروا يرغبون في وضع مادي وأكاديمي ومعنوي مريح، خاصة أن هنالك قناعة بصعوبة تغيير مفاهيم المجتمع، وطالب أرتولي بضرورة منح أساتذة الجامعات فرصة للمشاركة في اتخاذ القرار في قضايا الدولة على الأصعدة كافة، مشدداً على أهمية توفير بيئة صالحة للطالب الجامعي والأستاذ معاً. واحتج عدد من أساتذة الجامعات في ملتقى التعليم العالي على الأوضاع في الجامعات، منبهين الدولة لمنحهم فرصة المشاركة في اتخاذ القرار والمساهمة في حل القضايا بأسلوب علمي بعيداً عن السياسة التي ألقت بظلال قاتمة على مجمل الأوضاع في الدولة. وبينما تمضي هجرة الخبرات الجامعية في تصاعد مستمر بسبب سن المعاش المحددة من قبل الدولة، انتقد عميد شؤون الطلاب بجامعة النيلين الطاهر الفادني تحديد سن المعاش للأستاذ الجامعي، وقال إن هذا فيه ظلم كبير للأستاذ في المقام الأول، وللدولة التي تحتاج إلى خبرات وكفاءات قديمة لتدريب النشء وتحريك عجلة التنمية. ولكن وزارة التعليم العالي قللت من خطورة الأمر، مؤكدة أن عدد المهاجرين قليل جداً مقارنة بالموجودين، ويوضح هذا حديث أمين عام التعليم العالي، عمر أحمد عثمان الذي قال: «لا أعتقد أن عدد المهاجرين يشكل هاجساً، فهم نسبة ضئيلة مقارنة بالموجودين ممن يمارسون عملهم بنشاط»، فعلي اي اساس جاءت هذه الاعتقادات؟ وكيف للدولة ان تؤهل الاساتذة الموجودين وهي تواجه مشكلات في تمويل البحث العلمي؟ وبدا الأمر مختلفاً تماماً وفق حديث خبراء وأساتذة هم الآن خارج أسوار الجامعات السودانية، وكانت لهم وجهة نظر مغايرة تماماً لتبرير وزارة التعليم العالي بأن الكوادر ستعوض، ويقول بروفيسور الامين عبد الكريم أستاذ التاريخ بجامعة الخرطوم سابقاً، إن الاساتذة الذين هاجروا الى الخارج اخذوا وقتاً ليس بالقليل من عمرهم حتى وصلوا الى الدرجات العلمية التي هم فيها الآن، وكذلك امضوا اعواما طويلة في التدريس مما أكسبهم خبرات عالية جدا ومتراكمة، ومن الصعب ايجاد البديل في وقت قريب، وتأهيل الأستاذ الجامعي يحتاج إلى «15» سنة على الأقل، فهو يكون قد مارس العمل في الجامعة خمسة أعوام باعتباره حداً أدنى، واضاف بروفيسور الامين أن آثار فقدان هذه الكفاءات تبدو واضحة على مستوى الطلاب الاكاديمي، ويمكن رصده من خلال نتائج الطلاب المتدنية، وقال إن الأرقام مخيفة جداً، وستحدث كارثة في البلاد إن تواصلت هجرات الأساتذة بهذه المعدلات. وشنَّ خبير في شؤون التعليم فضل حجب اسمه هجوماً هو الاعنف من نوعه في حديث ل «للصحافة»، واصفاً سياسات التعليم العالي بعدم الاتزان والتخبط، الذي بدا واضحا جدا خلال الاعوام الاخيرة، وقال إن كان لدى الدولة أدنى اهتمام بالتعليم لوقفت مع نفسها قليلاً وراجعت سياستها في التعليم العالي ووفقت أوضاع الأساتذة العاملين بالجامعات، مشيراً إلى أن هناك جامعات اساتذتها يتمتعون بميزات السكن والإعاشة وغيرها، فيما توجد جامعات غيرها تفتقر تماما إلى ادنى المقومات، وحتى تلك التي تدفع للاساتذة بدل سكن فإنه لا يكفي لاستئجار غرفة في اطراف الخرطوم، وأضاف أن التعامل في الجامعات للمشاركة، ويلفت الانتباه اكثر عندما يتعلق الأمر باتخاذ قرار في الشأن العام فإنه يتم وفقا للانتماء السياسي، حسب قوله» وهذا يشعر الكثير من الاساتذة بأن هنلك «خياراً وفقوساً»، وهنالك تميز واضح للأساتذة المقربين من الحكومة بحسب الانتماء، فهم يشاركون في اتخاذ القرار على هذا الاساس. ومضي في الحديث ليقول إن الاوضاع معكوسة في السودان، فمن المفترض ان تكون رواتب اساتذة الجامعات افضل الرواتب، والآن هي الواقع غير ذلك، فهي من أسوأ المرتبات على مستوى سوق العمل في السودان، وهنالك فئات أخرى لا تبذل ربع الجهد الذي يقوم به أساتذة الجامعات، كما أن البحوث العلمية التي يقدمونها تهمل ولا يستفاد منها على الرغم من انها جهود علمية مقدرة وخلاصة ما هو مفيد للمجتمع. ويذهب في القول إلى أن هناك أساطير وظيفية يجب كسرها وإيجاد حل نهائي بتفضيل وظيفة على غيرها، ووضع أسس وظيفية تتساوى فيها الرواتب حتى تكون هناك عدالة، والدولة تميز بشكل واضح فئات معينة، وعلى مستوى الجامعات كذلك تميز الجامعات عن بعضها، لذلك من الطبيعي جدا ان يهجر هذا الرقم الذي وصفه بالخطير من السودان الى دول اخرى بحثاً عن وضع افضل، واشار الى ان معظم الاساتذة الذين تمت احالتهم الى الصالح العام والمعاش، هم الآن في اكبر الجامعات العالمية، ولديهم مساحة أكبر للابداع والبحث العلمي، فالدول التي ذهبوا إليها تستفيد من هذه الأبحاث بشكل مباشر وتعتمد عليها في العمليات التنموية. واختتم حديثه بأن لا يوجد أحد يهجر بلاده من دون أسباب منطقية، ومن الواضح أن الدولة لا تعير أي اهتمام لهذا الكم الهائل، وستجد نفسها وبدون تعليم، فالدول التي نهضت كان التعليم هو السبب الأساسي في نهضتها.