ويقودنا ما سبق من حديث عن جذور هذا المذهب في أدبنا العربي القديم بحثاً عن الدَّوافع التي أسهمت في تجسير الرُّومانسية في الشِّعر العربي الحديث من عوامل وأسباب موضوعية تعود إلى ارتباط الشِّعر العربي القديم بالنَّزعة الرُّومانسية. حيث يرى بعض النَّقاد أن غنائية الشِّعر العربي في بعض خصائصه تبرز المنحى الرُّومانسي فيما سبق من فترات تأريخية مختلفة في مسيرة أدبنا العربي. وهناك ملمحاً لهذه النَّزعة الرُّومانسية في أدبنا العربي القديم كما يرى محمد النَّويهي؛ لأنَّ النَّزعة الرُّومانسية «قديمة في تاريخ الآداب والفنون؛ لأنَّها تتجلى من القدم في شتى الأغاني والقصص والحكايات والمقطوعات الموسيقية... ثم هي نزعة تغلب على كل فرد إنساني في مرحلة من مراحل تطوره، فلابدَّ لها في كل عصر من أدب وفن يصورانها، وهذا التَّصوير ينسجم مع أحوال العصر المادية والثَّقافية وتختلف من عصر إلى عصر، وأما المذهب الرُّومانسي فحركة تاريخية معينة شهدتها أوربا في أواخر القرن الثَّامن عشر وأوائل القرن التَّاسع عشر،نشأت استجابة طبيعية صادقة لعوامل وظروف عصر النَّهضة واستكملت تلك الحركة طريقة فنية خاصة وقاموساً شعرياً خاصاً، وأنتجت عدداً من الشَّوامخ في الشِّعر والقصص والفنون بلغ فيها الخلق الفني الإنساني ذرى متميزة». فإذا كان النِّويهي يفرق في حديثه السَّابق بين النَّزعة الرُّومانسية في الأدب العربي القديم والحركة الرُّومانسية كمذهب أدبي في أدبنا العربي الحديث فإن الدَّكتور إحسان عباس يرفض التَّمييز بين النَّزعة والحركة في الأدب العربي قديمه وحديثه، ويرى أن الرُّومانسية متجذرة في أدبنا العربية في عصوره المختلفة ولكن الحدود المرسومة حالت دون تمظهره إلا في التيَّارات الرُّومانسية في العصر الحديث، ويقول في ذلك «يجب أن أسرع فأقطع طريق الظَّن على من يتوهم أن الرُّوح العربية لم تكن مفعمة بالرُّومانطيقية في أي عصر. إنّ هذه الرُّوح كانت عاتية في بعض الأحيان، وكان القلق من جرائها على أشده، ولكن التَّعبير عن هذه الرُّوح في الأدب لم يكن يستسلم إلا في الحدود المرسومة. وأوضح العصور رومانطيقية ذلك العصر الباكي-أعني العصر الأموي- الذي أوجد الشُّعراء العذريين والزُّهاد البكائيين، وشعراء الشِّيعة. فإذا نظرنا إلى غزارة الدِّموع ورقة القلب، والهيام بإمرأءة لها صورة عجيبة في الخيال، وجدنا حقاً هنا مظاهر رومانطيقية». إذن من حديث النُّويهي وإحسان عباس تبدو الرُّومانسية نزعة مركوزة في نفسية الشَّاعر العربي في أدبنا العربي القديم إلاَّ أنَّه لم يتبلور في مدرسة شعرية بعينها؛ لأنَّ الشِّعر القديم كان ينتظم في قوالب متعارف عليها فكان يسير وفق الحدود المرسومة وهذا لا يمنع من الخروج على هذه المضامين عند بعضهم فتبدو الخصائص والسِّمات الرُّومانسية من خلال إبداعهم الشِّعري. فقد كان في العصر الجاهلي ثورة على التَّقاليد والبحث عن الذَّات في مجتمع يتماهى فيه شخصية الشَّاعر بحياة قبيلته ممَّا يؤدي إلى امتزاج التَّجربة الذَّاتية بالتَّجربة الجماعية إلاَّ أنَّ المنحي الذَّاتي كان طابعاً مميزاً لعددٍ من فحول الشِّعر الجاهلي، تجلت بصورة شديدة الوضوح في أدب الشُّعراء الصَّعاليك أمثال:سليك بن السُّلكة والشَّنفرى وعروة بن الورد وبشر بن عوانة، وفيما ذهب إليه إحسان عباس «لعل شعر الصَّعاليك كان أهم خطوة تجديدية تحررية في هذا العصر، فإنَّ هؤلاء الشُّعراء قد تخلصوا من الشَّخصية القبلية التي كان الشَّاعر يذوب فيها، واتَّسم شعرهم بطابع الذَّاتية والتَّعبير عن خوالجهم النَّفسية وانفعالاتهم الخاصة، كما اتَّسم بوحدة الموضوع،... وشاعت فيه النَّزعة القصصية وهذه كلها سمات تكاد تتفق مع أحدث ما انتهى إليه الشِّعر العربي اليوم من رومانسية». ومع ظهور الإسلام في صدره الأول انشغل النَّاس من أجل التَّمكين للدعوة الإسلامية وكاد أن ينحسر الشِّعر الوجداني الصرف إلاَّ فيما نرى من مقدمات قصائدهم التي عرفت بالنسيب، ولكن حديثنا عن العصر الإسلامي يقودنا هنا إلى حيث استقرت الأمة الإسلامية بعد الفتوحات الكبرى وتسرب مباهج الحياة وزخرفها في العصر الأُموي إلى حواضر المدن وبواديها؛ وبدأت مرحلة من التَّرف والخلود إلى الرَّاحة بين بطاح الجزيرة العربية؛ لتمثل المدرسة العذرية الملمح الثَّاني في الشِّعر العربي بعد الجاهليين في النَّزعة الرُّومانسية التي تقوم على رفض القديم، وعلى رفض التَّقاليد البالية للقبيلة في الزَّواج الذي يحرم منه العاشقان بمجرد أن يذيع سر العلاقة خاصة إذا فاضت عواطفه شعراً، ثم الأحكام القاسية التي تفرض بعد ذلك حتى يحولوا دون التقائهم إلى الأبد، إذاً المدرسة العذرية كانت حدثاً شديد التَّفرد في الشِّعر العربي بالمفهوم الرُّومانسي ليس من باب الأثر الذي تركه فحسب؛ بل من حيث أثره الفعَّال في المذهب الرُّومانسي الأوربي بما احتوته من مضامين أسهمت بصورة أو أخرى في بلوَّرة بعض مفاهيم الرُّومانسية لدى شعراء الرُّومانسية في أوربا إثر عملية التَّبادل الحضاري والانفتاح الأوربي على الموروث الشَّرقي في القرنين السَّابقين. ومن ثَمَّ جاء العصر العبَّاسي بكل مافيه من انبساط للدولة وتمازج للحضارات الفارسية والرُّومانية والهندية بعد الفتوحات التي امتدت حتى الصِّين وحتى بحر الظُّلمات «المحيط الأطلسي» منذ أن أُدخل الرُّوم والعرب والأفارقة ضمن حضارة واحدة ولدت لدينا الأمة الإسلامية؛ وأبرز هذا التَّلاقح في العصر العبَّاسي، فكانت الذَّاتية والتَّغني بأحوال النَّفس وأحلامها سمة بارزة عند المتنبي على وجه الخصوص. ومما تجب الإشارة إليه في هذا المقال أنَّ مفهوم الرُّومانسية في الأدب العربي الحديث يتسق في سماته وخصائصه مع المذهب الرُّومانسي في الأدب الأوربي إلا أن هناك ما يدعو للتوقف عنده لمعرفة نقاط التَّلاقي والافتراق بين الأدبين العربي والأوربي من حيث الخصائص الرُّومانسية لكُلِّ منهما. ونرى القُط في تصحيحه لمفهوم الحركة الوجدانية في النَّقد العربي والحركة الرُّومانسية في الشِّعر الأوربي يلحُّ على رفض الاتجاه الغالب في هذا النَّقد إلى النَّظر إلى الأدب الرُّومانسي والأدب الوجداني نظرة شاملة مجرداً كلاً منهما في خصائص عامة يتَّخذ منها الدَّارسون مبادئ نقدية يقيسون عليها هاتين الحركتين مغفلين مابين الحركة الواحدة من فروق في المزاج والثَّقافة والبيئة الشَّخصية ومتخذين من تلك السِّمات دليلاً على طبيعة الحركة وأدبها على اختلاف ألوانه. وينطلق القُط من التَّفرقة بين هاتين الحركتين من حقيقة أنه وإن كانت الذَّاتية ومواجهة التَّحول الحضاري محورين يجمعان بين الرُّومانسية الغربية والعربية فإن الظِّروف التَّاريخية والحضارية التي مهَّدت لنشأة كل منهما وطبيعة النَّتائج التي حققتها الرُّومانسية في الشِّعر الأوربي والحركة الرُّومانسية في الشِّعر العربي تفرق بينهما «فقد جاءت الحركة الرُّّومانسية في الأدب الأوربي تعبيراً عن مرحلة حضارية انتقل فيها المجتمع الأوربي من نمط من أنماط الحياة إلى نمطٍ جديد يناقضه ويكاد يضع حداً حاسماً بين عالمين مختلفين في أعقاب الانقلاب الصَّناعي وحرب نابليون. وقد شمل التَّحول كل مظاهر الحياة في السِّياسة والاجتماع والأخلاق والمدنية والأدب والفن وانتقل الأدب من مرحلة عرفت بالكلاسيكية الجديدة إلى مرحلة عرفتها النَّاس باسم الرُّومانسية». ويضيف القط:»أما التَّغير الذي طرأ على المجتمع العربي لم يكن -برغم جسامته- على هذا النَّحو من الحسم والشِّمول؛ بل ظل محصوراً إلى حد كبير في أبناء الطَّبقة الوسطى وبخاصة المثقفين منهم، وظل ارتباط هؤلاء بالتُّّراث ومصادر الدِّين واللُّغة ينزع بهم إلى شيء من المحافظة يحِدُّ من استجابتهم التِّلقائية لدواعي التَّحول الجديد... فالأسرة ما زالت في الأغلب تضم أجيالاً ثلاثة يتجاوز بينهم ما يكون من خلاف طبيعي بين جيلٍ وجيل، إلى بونٍ كبير في التَّفكير والسِّلوك والأخلاق والمدنية بحيث يمكن أن ترى في كل جيل من الأجيال الثَّلاثة ممثلاً لمرحلة زمنية بعينها، ومازال الفرق بين الرِّيف والمدينة يتجاوز بينهم ما يكون من تباين تستدعيه طبيعة كل من البيئتين وإن اشتركتا في إطار حضاري عام حتى لتمثل كل بيئة مجتمعاً يكاد يكون مستقلاً في قيمه وأخلاقه ومستواه الحضاري والمدني». وكان لابدَّ من أن تؤدي هذه الظِّروف الخاصة للمجتمع العربي إلى ما أدت إليه فعلاً من نشأة حسٍّ أدبي عام تتعايش فيه كثير من الاتجاهات الأدبية المختلفة على الرُّغم من أنَّ كلا منها يمثل مرحلة حضارية بعينها؛ فالكلاسيكية الجديدة والرُّومانسية والواقعية تعيش جميعاً جنباً إلى جنب وأن غلبت إحداها حسب طبيعة المرحلة وظروف العصر!». ويرى الدَّكتور القط من الضَّروري لتصحيح مفهوم الأدب الرُّومانسي العربي والغربي، وتحديد طبيعة كل منهما من النَّاحية الفنية من أن يتجاوز النُّقاد رصد الخصائص العامة إلى السِّمات الخاصة، فالأدباء الرُّومانسيون «يختلفون فيما بينهم اختلافاً كبيراً في الموقف والفن، فليس ورد زورث وبيرون وشيلي وكيتس،من الرُّومانسيين الإنجليز سواء في طبيعة التَّجربة الشِّعرية وفي الصُّورة الفنية، وليس على محمود طه وإبراهيم ناجي والشَّابي والتِّجاني يوسف بشير وإيليا أبو ماضي وإليَّاس أبو شبكة وغيرهم من الوجدانيين العرب صورة مكررة في موقف كل منهم من الحياة والطَّبيعة والمجتمع وفي التَّعبير الفني عن ذلك الموقف:فقد نجد عند أحدهم التفاتاً ملحوظاً إلى الطَّبيعة وعند الآخر انشغالاً واضحاً بالحب، وعند ثالث نظرة اجتماعية أو كونية أو أخلاقية غالبة. وقد نرى في أسلوبهم توازناً بين القديم والجديد أوثورة عنيفة على التَّقاليد الفنية أو تاثراً بأساليب وافدة أو ابتكاراً ذاتياً يربط فيه الشَّاعر بين التُّراث وروح العصر الحديث». مجمل القول في النَّظر المدقق للدوافع الموضوعية لسيادة الحركة الرُّومانسية في ذاك الوقت بوجه عام يشير إلى أنَّ الرُّومانسية في العالم العربي ارتبط بالوعي المتنامي بالأوضاع الثَّقافية والاجتماعية الخاصة التي كانت تدور حول حياة الفرد الشَّخصية، ولامشاحة تأثير الثَّقافات المختلفة وانتشارها بين الشِّعوب والأمم باعتبارها إرثاً إنسانياً مشتركاً ومن بينها الأدب العربي. فقد تأثر بالرُّومانسية العديد من الشُّعراء العرب؛ بل اعتنقها بعضهم مذهباً ونادى بها وسط الشُّعراء ودعوا للتجديد في الموضوعات التي تتعلق بالرُّومانسية ومبادئها المختلفة والمتعددة، حينما كان المجتمع العربي في مطلع القرن العشرين يحفل بنهضة أدبية وكفاح وطني، وتقدم ثقافي وتطور اقتصادي استيعاباً للمفاهيم الوافدة وبصورة متسارعة نتيجة لعملية التَّرجمة وانتشار المجلات والكتب المحلية والأجنبية وقد أسهمت المطابع ودور النَّشر في ذلك. [email protected]