طلت علينا قبل أيام قلائل ذكرى الاستقلال المجيد، وبلادنا تمرُّ بأزمات مُتشعٍّبةُّ غير مسبوقة، شغلت بتعقيداتها وتداعياتها المحتملة بال كل مَنْ يمتلك ذرة من الوطنية وقلبه على هذا الوطن. فما من أحدٍ يلتقي بزميله في مكان العمل أو جاره في السكن أو بأية مجموعة من النَّاس في المنتديات والمناسبات الاجتماعية وغيرها، إلا وكان الوضع الرَّاهن المأزوم مثار الحديث بينهم. وما تعكسه الصحف اليومية من تقارير متكررة عن الفساد، وما تحمله من أخبار محبطة ومخيبة للآمال كفيل في حد ذاته بدفع الناس للنقاش والحديث بمرارة عما نعانيه. وما يدعو للحيرة أنَّ الأزمات التي نعانيها الآن لم تدهمنا بالصدفة، ولم تكن نُذرها خافية علينا، بل كانت إرهاصاتها بادية وتتعاظم يوماً بعد يوم، ورغم ذلك لا يتم التعامل معها في حينه بالمعالجة الملائمة، وإنَّما تُتْرَك حتى تتفاقم وتستعصي على الحل، لتصبح من بعد ذلك سبباً للتوترات المتكررة، ومدخلاً للتدخلات الأجنبية، ولخلق أزمة جديدة تضاف لما قبلها من أزمات. ومبعث الحديث بالمرارة وخيبة الأمل نابع من ضغط الإحساس بضياع الزمن على هذه الأمة، وهدر الموارد المادية التي هي في أمس الحاجة إليها، وهلاك الأنفس التي هي أعزَّ ما تملك، دون أن تضع هذه التكلفة الباهظة نهاية لا رجعة بعدها لمسلسل هذه الأزمات، وأخطرها على الاطلاق الحروب والنزاعات المسلحة التي تضعف كيان الدولة وتهدد بتفتيتها، وهو ما يلقي بظلال قاتمة على حياة الناس وبضبابية على مستقبل بلدهم. وإزاء هذه الحالة المقلقة لواقعنا والباعثة على الخوف، يكاد يجمع الناس بمختلف خلفياتهم، على أنَّه لا سبيل للخروج من مستنقع هذه الأزمات المتواترة التي تحاصرنا، إلا بانتهاج الديمقراطية بصورة جادة ومسؤولة، ويكون الهدف النهائي للممارسة الديمقراطية المبتغاة إرساء آلية مثلى للشَّعب يستطيع عن طريقها انتخاب القيادات المؤهلة التي يرتضيها من بين أبنائه المقتدرين الأكفاء الذين يتقدمون لنيل ثقته، ويحق لمن يختارهم من بعد ذلك أن ينوبوه في التصدي للتحديات التي تجابه الوطن، ومن ثمَّ العبور به نحو آفاق التقدم والرفاهية. ربَّ قائل بأننا قد جرَّبنا الديمقراطية من قبل ولم نحصد إلا الفشل تلو الفشل، ونقول بذات المنطق إننا قد جربنا غيرها من أنواع الممارسة السياسية ولم نجنِ إلا المزيد من الفشل والإخفاق، ويكفي دليلاً على ذلك ما نحن فيه الآن من أزمات ومشهد سياسي بائس، علماً بأن حظ الديمقراطية في التطبيق والممارسة في السابق تمَّ في فترات قصيرة جداً قياساً بفترات الأنظمة الشمولية التي أعقبتها. فمنذ الاستقلال في عام 1956م وحتى يومنا هذا، كان نصيب الممارسة الديمقراطية إجمالاً حوالى عشر سنوات، وعلى ثلاث فترات قصيرة متباعدة لحكومات برلمانية، في مقابل ما يزيد بعام عن أربعة عقود ونصف موزعة بصورة متفاوتة على ثلاث فترات من الحكم الشمولي. وأثناء كل فترة من جولات الحكم كان الأداء السياسي السيئ والمزري للنُّخب السياسية سبباً للتعجيل بقدوم جولة جديدة أخرى مختلفة عن سابقاتها، وغالباً يتم التكريس في بدايتها لمحو آثار الجولة التي سبقتها، مما جعل التربص بالآخر والسعي لإقصائه وإبعاده بشتى السبل من المسرح السياسي ديدن القادمين الجدد في كل جولة، وكان هذا النهج أكثر وضوحاً وأشد شراسة في جولات الأنظمة الشمولية. وقد أوجدت هذه الممارسة الإقصائية حالة من الكراهية المتبادلة بين النُّخب السياسية، خاصة بين المؤدلجة منها، تسببت بدورها في جعل الحياة السياسية مليئة بالخصومات والضغائن والمكايدات وتصفية الحسابات الشخصية التي أقعدت بالوطن وأضرَّت بمستقبل أبنائه. كما أنَّها أظهرت لكل وطني متجرد وغيور، أنَّ النخب السياسية منذ الاستقلال وحتى يومنا هذا، بمختلف مسمياتها ومرجعياتها غير حريصة على تأسيس حكم ديمقراطي راشد يرتضيه الناس للتبادل السلمي للسلطة، وانحصر همها فقط في كيفية الوصول إلى السلطة. لذلك لم يكن مستغرباً أن تسعى جميع الأحزاب تقريباً بطريقة أو بأخرى لأن يكون لها موطئ قدم داخل المؤسسة العسكرية لكي تصل عن طريق الانقلابات العسكرية إلى السلطة، الأمر الذي انعكس سلباً على الممارسة الديمقراطية نفسها، وأفقدها وقتاً ثميناً كان يمكن أن تستثمره لتصحيح أخطائها عن طريق الممارسة الفعلية. وما يلفت النظر في أحزابنا، أنها تَدَّعِي الديمقراطية وقبول الآخر والركون للمؤسسية، ولكن نهجها في حقيقة الأمر مع غيرها وداخل أروقتها لا ينم عن ذلك، واتضح أنها أسيرة لزعامات لا ترى إلا نفسها وبعض المقربين الموالين إليها، وبالتالي لا مجال لظهور قيادات جديدة موهوبة يمكن أن تشكل بديلاً لها. ويشاطرني كثيرون، أن معظم تعقيدات الأوضاع السياسية التي تعيشها بلادنا الآن بسبب الخلافات الشخصية والكراهية المستفحلة بين هذه القيادات، وإحساس كل منها بأنه الأولى والأحق بالريادة والزعامة على هذه الأمة. وما يحزن أكثر في هذه الأحزاب، خضوع كوادرها المستنيرة والمثقفة لنفوذ هذه الزعامات، وتنازلها عن دورها المرتجى في الارتقاء بمستوى الممارسة الديمقراطية الراشدة داخل أحزابها، لتصبح نموذجاً يُحتذى لمن هم خارجها مما يؤدي لتعميق للديمقراطية وترسيخها في وجدان الناس واختفاء وإلى الأبد مظاهر المجاملة والعاطفة والاستغفال التي تصاحب الانتخابات عندنا، وحينها سيعرف النواب الذين ينتخبهم الشعب أنهم خدام له وموظفون لديه، ومستقبلهم السياسي مرهون بتجسيدهم لتطلعاته. والمفارقة الأخرى والمحزنة في نهج أحزابنا السياسية، أنَّها من ناحية تنادي بالتحول الديمقراطي، ومن ناحية أخرى لا تبدي استعداداً كافياً لتحقيقه على أرض الواقع بخطوات ملموسة. فعلى سبيل المثال، أضاعت أحزاب المعارضة فرصة الانتخابات المعلنة التي أتاحتها اتفاقية نيفاشا للسلام، وكان بإمكانها استنفار قواعدها والاستعداد المبكر للمشاركة فيها، ولكن بدلاً من ذلك، ظلت في حالة تردد وتلكؤ حتى حلَّ موعد الانتخابات، ثم انسحاب بعضها في اللحظات الأخيرة. كما أنَّ الحزب الحاكم رغم خوضه لتلك الانتخابات وفوزه فيها بصورة فاقت حد التصديق كان بإمكانه أن يؤكد حرصه على التحول الديمقراطي بصورة أكبر، وأن يعزز فوزه الكاسح الذي أحرزه في تلك الانتخابات من عدمه، لو أنَّه أعلن عن قيام انتخابات مبكرة بعد عملية الانفصال، الأمر الذي كان سيفتح نافذة للإجماع الوطني وتجديد الدماء في منظومة الحكم بصورة سليمة ومبررة، وكانت ستُعَد مدخلاً لحل كثير من المشكلات، وأيضاً ستشكل أي الانتخابات المبكرة بداية موفقة لما يسمونه الجمهورية الثانية، وإن كان الذي يحدث ونعايشه الآن ليس بجمهورية ثانية؛ إذ لم يتغير ما يوحي بمضمون هذا المصطلح. والدعوة للانتخابات المبكرة في تقديري منطقية من عدة أوجه، أولها المستجدات التي أعقبت نهاية أجل اتفاقية نيفاشا، وثانيها لكون الانتخابات التي أفضت إليها هذه الاتفاقية قد جرت في ظل ارتباط الحزب الحاكم بمؤسسات الدولة، وبالتالي لم تكن الفرص فيها متساوية أمام الأحزاب بالقدر الكافي. كما أن نتائج الانتخابات حامت حولها الشكوك، وصعب على كثيرين تصديقها، لمفارقتها الكبيرة للتوقعات الإحصائية، وبالنظر لعدم عكسها لتباين النفوذ التقليدي من حزب لآخر، ومن منطقة لأخرى. كما أنَّ الدعوة المبكرة للانتخابات في حد ذاتها تتناغم مع مطلب التغيير الذي يتردد صداه لأول مرة في منطقتنا العربية كثمرة لثورات الربيع العربي، ويجد تحقيق مثل هذا المطلب القبول داخلياً، وفي محيطنا الأقليمي، وحتى على النطاق الدولي. وأكثر من ذلك، يلتقي مع رغبة الشباب الطامح للتغيير، والوفاء به سيعكس في نظر الكثيرين استيعاب النخبة الحاكمة لمتطلبات المرحلة التي تنادي بالتغيير، وعلى رأسها التخلي عن نزعة الاستفراد والهيمنة التي وصلت حتى لأدنى مستويات القيادة في الخدمة المدنية. إن المشهد السياسي الرَّاهن اليوم، والمخاضات التي أسفر عنها التشكيل الوزاري الجديد الذي أعلن عنه قبل فترة، بعد طول انتظار، في ظل التحديات الماثلة بما فيها الضائقة الاقتصادية، كشف عن حجم التباعد والمفارقة بين هموم المواطن واهتمامات من يقومون على أمره، وأظهر من جديد وبجلاء أنَّنا بصفتنا سودانيين لم نتعلم من أخطاء الماضي، ولم يهتد عقلنا السياسي بعد مرور ما يزيد عن نصف قرن منذ استقلالنا لوضع آليات ومعايير تفضي لوضع الرجل المناسب في المكان المناسب، ويؤكد أن ما نسمعه من هنا وهناك - عن تحول ديمقراطي تتساوى فيه حظوظ الجميع للفوز بالمنصب العام، لا يعدو أن يكون ذراً للرماد في العيون، وقد أعادنا التشكيل الوزاري الذي أُفْصِحَ عنه والتأجيل المتكرر الذي سبق إعلانه للعادة القديمة المتجددة لدى الأحزاب في المحاصصات، والإحراج لبعضها البعض، والبحث عن الغنائم على حساب بناء دولة ديمقراطية حديثة متطورة تلبي طموحات شعبها في العقد الثاني من الألفية الثالثة، وهو ما زاد من حالة الإحباط وخيبة الأمل التي ترتسم على وجوه الناس، وتستقيها من تعليقاتهم الساخرة المفعمة بالمعاني والدلالات. إننا في هذه اللحظة المفصلية، لسنا بصدد عقد محاكمة لنخبنا السياسية لفشلها السياسي منذ الاستقلال وحتى يومنا هذا، فذلك حكمه متروك للتاريخ والأجيال القادمة، ولكن ما ينبغي أن نقرُّ به جميعاً بصفتنا سودانيين أننا قد فشلنا في إدارة وحكم بلادنا بصورة تكفل لنا التطور وتؤمن لشعبنا الأبي العيش الكريم. وحصيلة ما وصلنا إليه اليوم، وبالنظر للدول التي استقلت مثلنا وانطلقت بشعوبها نحو آفاق التقدم كالهند وماليزيا وغيرها، يؤكد مرة أخرى أن السبب الرئيس لفشلنا يرجع لتفريطنا في الديمقراطية التي استهل بها الرعيل الأول من ساستنا الأماجد الحكم الوطني بعد رحيل المستعمر، وبسبب غيابها القسري لم نفلح في إدارة التنوع الذي تزخر به بلادنا، وكانت النتيجة الطبيعية لهذا الفشل المتواصل القلاقل والنزاعات وحالة عدم الاستقرار التي تشهدها أطراف بلادنا. ومما يؤسف له، أن التجارب الإنسانية التي عالجت مثل تعقيدات ظروفنا لم نستفد منها، ولم نسع للاقتداء بها، وبقينا في مكاننا نصطرع على كراسي الحكم طيلة الفترة التي أعقبت الاستقلال، وندور في ذات الحلقة المفرغة إلى أن وقع الفأس على الرأس، ولسوء حظنا حدث ذلك، وقد تغيرت قواعد اللعبة الدولية، وأصبحنا مدرجين ضمن قائمة الدول الفاشلة، وبلغ بنا الحال أن أصبحنا مجرد مادة إعلامية تتصدر نشرات الأخبار. ويحدث لنا هذا، والسودان من أغنى بلاد العالم، يماثل أمريكا في ثرائه بالموارد الطبيعية وفي تنوع مكوناته البشرية، ويتفوق في ذلك على العديد من الدول الأوروبية والآسيوية، ناهيك عن الدول العربية والأفريقية، وشعبه من أذكى شعوب العالم، ويشهد بذلك سيرة أبنائه في المحافل الدولية، والمؤسسات الأكاديمية العريقة، ومعروف عنه أي شعبه رفضه للضيم والمهانة؛ فقد ناهض المستعمر بجميع طوائفه، وأخرجه من دياره، وقام بثورتين شعبيتين سبق بها ما يسمى بثورات الربيع العربي، ولن تثنيه أساليب التحييد وشراء الصمت لبعض فئاته، عن أن يقوم بثالثة ورابعة إذا انسد أمامه الأفق، وحُمِلَ أكثر مما يطيق. واستناداً إلى ذلك، كان المأمول أن يغادر السودان خانة «رجل أفريقيا المريض» إلى المارد الأفريقي المهيب، بتأسيس اقتصاد قوي بالسياسات والخطط الرصينة القصيرة والبعيدة المدى، لا بالشعارات والتمنيات من قبيل «السودان سلة غذاء العالم» الذي ظللنا نلوكه بلا معنى ومضمون على مدى نصف قرن من الزمان، بل أصبح عدم تجسيده على أرض الواقع يُعَدُ دليلاً على فشلنا وغياب الأولويات عندنا. وكان مبعث الأمل أيضاً في السير على طريق التطور والنهوض والازدهار، أن السودان من أوائل الدول التي نالت استقلالها، ولم يبخل على أبنائه المتعلمين؛ إذ بعث بخيرتهم لاكتساب المهارات ونيل الدرجات العليا في أعرق الجامعات الغربية، وأتيحت لهم، أثناء وجودهم في الغرب، الفرصة ليروا مستوى التقدم والنهضة الذي بلغته تلك المجتمعات بفضل الممارسة الديمقراطية ومعايير الحرية والشفافية التي تتمسك بها، ورأوا بأعينهم كيف تخدم الحكومات المنتخبة شعوبها، وكيف تسعى لمعرفة آراء مواطنيها في قضايا الساعة المهمة، وكيف تعمل الحكومات من جانبها جاهدة لتحسين أدائها وإظهار اهتمامها بالخدمات الأساسية التي تهم المواطن طيلة فترة انتخابها، لكي يرضى عن سياستها، ويقبِل على دعم إعادة تفويضها في أية انتخابات قادمة. إلا أن سياسيينا ومثقفينا للأسف - ممن درسوا في الغرب أو هاجروا إليه طلباً للحرية التي افتقدوها في ديارهم، تنكروا للديمقراطية والحرية التي عايشوها في الغرب وكانت بمثابة سر تقدمه ومفتاح نهضته ونعني بصفة خاصة أولئك الذين انخرطوا في النشاط السياسي المنظم، ورضوا بالمجاراة والتغاضي عن النهج المجافي للأعراف الديمقراطية في داخل أحزابهم، وكل ذلك مقابل تحقيق الأمجاد الشخصية والتطلعات الآنية الضيقة على حساب مكانة الوطن ورفاهية أبنائه. وفي تقديري، لم يعد مقبولاً في ظل ما يحيط بنا من متغيرات، ونحن نرتاد الألفية الثالثة من عمر البشرية، ومع ثورة الاتصالات وتلاشي المسافات واتساع دائرة اكتساب المعارف للإنسان، وتعالي صيحات الحرية والديمقراطية في غير ما مكان، أن نظل في خانة الأحلام والتمني، ولا نتقدم خطوة في اتجاه الممارسة الصحيحة للديمقراطية، تعافياً من ديمقراطية الخيار والفقوس، وتمكنَّا من إيجاد آلية ديمقراطية تأتي لنا بأناس من بين ثلاثين مليون مواطن بعد الانفصال على طول البلاد وعرضها، يحترمون عقولنا في عالم ساس ويسوس الذي لم يعد فيه شيء مدسوس، وحتى يتسنى لنا الحفاظ على بلادنا وتأمين مستقبل أولادنا من ويلات الحروب التي أعادتنا إلى عهود داحس والغبراء وحرب البسوس. إننا بصفتنا سودانيين، بصدق العزيمة وباستلهام واعٍ لمعاني الاستقلال، وبنظرة متفائلة للمستقبل، نستطيع أن نتخطى ما نحن فيه من أخطار وضوائق، وذلك بقيادة حملة تثقيفية توعوية لمجاميع أهلنا المكتوين بخطل السياسة وفشل الساسة، وتنادي بالممارسة الديمقراطية السوية، وتعلي من قيم المواطنة، وإشاعة روح التسامح والمحبة، وتعمل على رتق النسيج الاجتماعي ومحو الفوارق بين الناس، وتحض على ثقافة قبول الآخر، وتبصيرهم بأهمية ترتيب الأولويات وتحكيم العقل في حياتنا، وتربيتهم على رفض المسلمات وأشكال الوصاية والمزايدة على الوطنية، وأهم من ذلك تغليب المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، وأكثر من ذلك مناهضة ثقافة الهتاف التي تلغي العقول وتلهب العواطف دون طائل، وبذلك نستطيع أن نرتقي بمجتمعنا من حالة التلقي والانقياد الأعمى ليأخذ زمام المبادرة بالقضاء على كل الفوارق والتشوهات والمعايير المختلة التي أصابتنا في مقتل، وحينها ستتفجر الطاقات، وتتفتق العبقريات، وتخضر الحقول، ويرحل عنا اليباب، ويحق لنا حينها أن نتغنى جميعاً بحب الوطن ومآثر أبطاله بكل اللهجات واللكنات. والمطلوب في تقديري لتحقيق هذه الرغبة الملحة، أن تبادر قوى المجتمع المستنيرة بالانضواء تحت لواء منظمات أو جمعيات طوعية هدفها الأساسي مناصرة الديمقراطية والتبشير بها وغرس ثقافتها بين الناس، وتعزيزها في مناحي حياتنا المختلفة، وباختصار هدفها توعية وتبصير المواطن بحقوقه الدستورية، وتذكيره بأهمية دوره في الممارسة الديمقراطية التي أصبح عدم إلمامه بأبجدياتها أكبر مهدد لتوطينها واعتمادها باعتبارها آلية مُثلى لتداول السلطة بيننا، ولنا نموذج ومثل حي في جمعية حماية المستهلك التي نهضت لحد ما بوعي المواطن وجعلته يتفاعل مع نداءاتها في محاربة الجشع والمتاجرين بقوته، وجعلته أكثر وعياً ودراية وتمسكاً بحقوقه. ويمكن أن تنضم إلى هذه الجمعيات الطوعية بصورة خاصة القوى التي لا تنتمي لحزب بعينه وحتى التي ضاقت بنهج أحزابها، ويهمها في المقام الأول تعميق الديمقراطية والارتقاء بمستوى الممارسة السياسية، حتى تصبح وسيلة راقية متحضرة تقودنا لمعرفة واختيار الأجدر والأكفأ من بيننا ليتقدموا صفوفنا ومن ثم العبور بنا نحو مراقي التقدم والرفاهية، وحينها تصبح الريادة في هرم القيادة: من باب الكفاءة والمؤهلات، لا من باب المجاملة والترضيات، ومن باب الوطنية لا الجهة والقبلية، وأهم من ذلك من باب الجهد والكسب لا من باب الحسب والنسب، آملين أن تطل علينا ذكرى الاستقلال القادمة وبلادنا قد تعافت من عللها، وخطت خطوات واثقة نحو عليائها، ولنستشعر، ونحن نتطلع إلى المستقبل بأمل، قوله تعالى: «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم» صدق الله العظيم. * كلية العلوم/ جامعة الخرطوم