ينحو بعض المعلقين على الأحداث الى الاعتقاد بأن صعود الإسلاميين عبر الانتخابات هو ظاهرة جديدة حدثت جراء ما سمي بالربيع العربي، وهذا اعتقاد غير دقيق قد يؤدي الى استنتاجات غير صحيحة، ان صعود التيارات الإسلامية عبر الانتخابات يمتد الى ما قبل الفترة الراهنة بأكثر من عقدين، بل ان من الإسلاميين من يؤمن بأن رصيدهم الاقتراعي ظل دوماً متقدماً عما لدى الآخرين لو أنه اقيمت انتخابات نزيهة، بهذا الحديث ابتدر الدكتور غازى صلاح الدين العتبانى الندوة التى اقامها منتدى النهضة والتواصل الحضارى بقاعة الشارقة جامعة الخرطوم والتى ناقشت اسباب صعود الإسلاميين فى الحكم عقب ثورات الربيع العربى التى اجتاحت المنطقة العربية. وقدم غازى ورقة تناولت الأسباب والتحديات التى تواجه الحركات الإسلامية فى المرحلة المقبلة، وقال اذا أردنا أن نحدد بدقة قوة الإسلاميين الاقتراعية فعلينا الاحتكام الى الاختبارات الموضوعية التي وفرتها الانتخابات التي جرت في عدة دول إسلامية. واستشهد غازى بالتجارب الأولى لفوز الإسلاميين فى السودان واخيرا فى تونس ومصر وقبلهم فى تركيا والمتوقع فى اليمن وليبيا، وقال ان تتابع فوز الإسلاميين في فترة وجيزة بعد أحداث الربيع العربي صرف اهتمام المراقبين عن تدبر هذه التحولات من جذورها، خارج اطار الأحداث الأخيرة في البلاد العربية. ان الدراسة المتأنية لأسباب هذه التحولات تجعل من التقويم أكثر موضوعية والتنبؤ بما يحمله المستقبل أكثر دقة، وارجع غازى صعود الإسلاميين الى قوة جاذبيتهم وفعاليتهم ، على سبيل المثال فان واحدة من أهم عناصر قوة الإسلاميين هي قوة التنظيم وفاعليته، وهي فائدة مستمدة من علوم التنظيم والادارة الحديثة التي تطورت في الغرب. بل ان بعضهم يزعم أن الإسلاميين قد استفادوا حتى من التجارب التنظيمية لأعدائهم المذهبيين وهم الشيوعيون. هذه الملكة أعطت، وما تزال تعطي، الإسلاميين ميزة نسبية في أي نشاط تعبوي، سواءً كان انتخابات عامة، أو حملات سياسية، أو مطالبات فئوية، واضاف وهذه الخبرة، يتعدى أثرها محض القدرة على الانضباط والكفاءة التنظيمية الى المهارة في تشكيل تنظيمات جديدة، فئوية ونقابية واجتماعية تعين على استيعاب جمهور متعدد الاهتمامات والأولويات، ما اعطى الحركات من الصفات التي تكسب الحركات الإسلامية قوة داخلية وميزة على كثير من منافسيها وهي القدرة على تبني مبادرات جديدة في المجالات الاجتماعية والثقافية، وحتى الرياضية، في معظم نماذج الاستبداد والاضطهاد التي عرفها العالم الإسلامي في الأعوام المائة السابقة نال الإسلاميون نصيباً وافراً من الملاحقة والعقوبة، وفي أحداث الربيع العربي الأخيرة قدموا أمثلة للاستعداد للتضحية في سبيل أفكارهم وتلقي العقاب بسببها، بالسجن أو التشريد أو الاستشهاد. وقد أكسبهم ذلك رصيداً نضالياً واعترافاً بالاستحقاق من جمهور الناس. وسيبقى هذا الرصيد ما ظلت تضحيات الإسلاميين حية وشاخصة، وما لم يتحولوا هم أنفسهم الى أدوات اضطهاد لخصومهم، يشكك آخرون في التزامهم الديمقراطي، ويرون أن الحماس الذي يبديه الإسلاميون نحو الديمقراطية هذه الأيام ليس نابعاً من التزام حقيقي سيصمد أمام اختبارات السياسة، لكنه نابع من مصالح ظرفية. لكن من أهم أسباب قوة الإسلاميين، بغض النظر عن مدى التزامهم بالديمقراطية مع الآخرين، هي التزامهم بقدر كبير من الديمقراطية في تقاليدهم الداخلية، مع التفاوت في ذلك بالطبع بين الحركات الإسلامية في البلاد المختلفة، الا ان غازى قال بيد ان كل المذكور آنفاً من أسباب القوة هو مما يمكن أن يتحقق لأي جماعة دينية كانت أو علمانية، ولكن الذي يخصص الإسلاميين ويعطيهم ميزة فارقة هو تبنيهم للطرح الإسلامي في مجتمعات يعطي أفرادها الإسلام وزناً كبيراً في تحديد خياراتهم في الحياة الخاصة والعامة، وتحدث غازى عن التحديات التى تواجه الإسلاميين بعد وصولهم الى هذه المرحلة، وقال ان أداء الحركات الإسلامية في الحكم، سيكون أهم محدد لمصيرها وحكم التاريخ نحوها، وبسبب أنها رفعت شعار الإسلام فان الأحكام الصادرة حول أدائها، ومن ثم القول باستحقاقها، ستكون بمعايير أقسى من تلك التي يصدر الناس أحكامهم وفقها بالنسبة للحركات السياسية الأخرى، و التحدي الأول والأعجل في نظر الجمهور هو تحدي الاقتصاد والخدمات والتحدى الثقافى والاجتماعى و التعايش الديني والأقليات ، فضلاً عن هذه التعقيدات العامة فان المصاعب الاقتصادية في معظم البلدان ستزداد بسبب أن الحكومات المخلوعة ربطت اقتصاداتها ربطاً وثيقاً بالاقتصادات الأوربية والأمريكية، وان أي انهيار سريع في الاقتصاد أو الخدمات سيحول تجربة حكم الإسلاميين الى كابوس سياسي ويضع حكومات الحركات الإسلامية على المحك، وفى ختام حديثة قال غازى ان مقابلة هذه التحديات بنجاح يستدعي خطاباً إسلامياً جديداً. وابتدر النقاش الدكتور أمين حسن عمر معلناً تأييده لكل ما جاء فى الورقة خاصةً الأسباب التى ادت الى صعود الإسلاميين الى سدة الحكم بعد ثورات الربيع العربى والتحديات التى تواجههم الأ انه تحدث باشفاق عن الإسلاميين بعد توليهم لمقاليد الأمور وزمام الحكم فى دول بها توازنات عديدة سياسية وثقافية واجتماعية تمثل مصاعب حقيقية تعترض طريقهم تتطلب مرونة وسياسة حكيمة تغلب المصلحة العامة بدلاً عن التشدد والتطبيق النظرى للإسلام بعيداً عن الشعارات القديمة التى تجاوزتها المرحلة الحالية خاصة التى تبخس الدنيا وتدعو الى الزهد، وهو ما أثار ردود افعال غاضبة لدى بعض الإسلاميين المتشددين وهو مادفعهم الى توجيه انتقادات حادة لمقدم الورقة الدكتور غازى صلاح الدين ومبتدر النقاش أمين حسن عمر وصلت الى حد اتهام الرجلين بتنازلهما عن روح الفكر الإسلامى الذى يدعو لتغليب واظهار الدين على كل تفاصيل الحياة السياسية والاجتماعية، وفى بداية حديثه قال امين حسن عمر «اتفق مع مقدم الورقة فى كل اورده عن اسباب صعود الإسلاميين والتحديات التى تواجههم» وارجع ذلك الى التقارب الفكرى بينه وبين مقدم الورقة، وشدد عمر، على ان وصول الإسلاميين الى هذه المرحلة لم يأت من فراغ وانما لتضافر عدة عوامل حقيقية أسهمت فى وصولهم للسلطة، وقال «المناصب التى وصلوا اليها لم تكن خالية ولا احد يتنازل عنها الا ان يسقط او يُسقط» وهناك عوامل أسهمت فى وضعيتهم الحالية لخصها فى افلاس تجارب الفكر العلمانى فى المنطقة والتى قال انها على قلتها لم تكن مشروعة وتم فرضها بالقوة فى الدول الإسلامية، بالاضافة الى قربهم الفكرى والثقافى من الشعب، الا انه قال ان الحركة الإسلامية اذا اعتقدت ان عقلية الوصايا على الشعب ستزيد من قربها للمجتمعات تكون قد أخطأت، فالقرب من الناحية العقلية ان تكون فاعلا لمصلحة الناس فالتحدى الرئيس لنجاح الإسلاميين ليس تحديد ماهية الإسلام فهى معروفة للجميع والقرآن حاضر ومعروف للناس والتحدى الأصعب هو ادراك ماهية السياسة التى تقتضى تحقيق مصلحة الناس التى دعا اليها الدين، ولكن كثيرا من الإسلاميين للاسف يهتمون بالقشور فالتطبيق الإسلامى بعد التدبر والقناعة ينبغى ان يكون حال الانسان أصلاً ولذلك يتوجب على الحركات الإسلامية ان تبدأ فى محاولتها «بالواقع وليس بالفكرة» وهذه الفكرة حسب وجهة نظره تغيب على كثير من الإسلاميين خاصة الذين يرون تنزيل الفكرة الإسلامية على الناس فيما يتمظهر وفق النفسية المثالية بتحقيق احسن شئ، ونقل «جنة عدن الى الأرض» والتبشير بالرؤى القائمة على «العدمية» وكأن الدنيا لا تساوى شيئاً، ويظهر ذلك فى بعض الشعارات «ولترق كل الدماء» وقال لماذا ترق كل الدماء فمن يستخلف فى الارض ؟ واوضح عمر ان الحركات الإسلامية اذا ادركت ماهية السياسة ستنجح واذا اتبعت المنهج المثالى والتنظيرى ستسقط ومن ثم يحدث تحنيط طويل للعالم الإسلامى وتضيع فرصة كبيرة للإسلاميين لن يجدوها مثلما تتوفر الآن. وتحدث ايضاً الدكتور عبدالله علي ابراهيم معقباً على الورقة وأيد اغلب ما جاء فيها وان ابدى ملاحظات على بعضها وقال «انا سعيد بما قاله امين حسن عمر وماطرحه غازى صلاح الدين ولا اجد خلافا كبيرا فيما ذهبا اليه» واعتبرها بابا لتجديد حوار الوطنى عام. وتساءل ابراهيم هل تضمنت الورقة السلفيين فى رؤيتها ام اقتصرت على الإسلاميين الحركيين على حسب وصفه، ولماذا فاز هؤلاء بميزاتهم ولماذا فازت الحركات السلفية ايضا هل المعيار واحد، ويمكن ان ينطبق على باقى الدول الإسلامية الأخرى «ماليزيا، نيجيريا والصومال» ام ان ذلك قاصر على مناطق الربيع العربى فقط، وقال هذا الكسب الإسلامى مزعج للحركة الإسلامية نفسها ولهذا الاقبال الذى ربما فاق توقعاتها فى صناديق الاقتراع وزيادة نسبة التصويت من معدل «15 -40 %» واكثر ، وتحدث ابراهيم عن جملة تحديات تواجه الحركات الإسلامية ولخصها فى كيفية تعاملها مع الأقليات والمرأة والحقوق والسياحة والأزمة الاقتصادية، واذا تنازلوا قليلاً هل يقرأ ذلك من باب التواطؤ ام التنازل عن المبدأ، وقال الحركة الإسلامية تحتاج الى ادبيات جديدة خاصة من مصادر المسلمين الذين خضعوا لفرنسا فى اشارة الى التجربة التونسية والمغربية والجزائرية وقال ان الحركة الإسلامية لها فرصة ممتازة اذا اهتدت بهذه التجارب واستفادت من «تمر الهبوب» الربيع العربى الذى نصبها على سدة الحكم، وارجع ابراهيم الى ان هناك عوامل عديدة اسهمت فى وصول الإسلاميين لهذه المرحلة وليس صحيحاً ان نختصرها فقط فى التنظيم والجاذبية والقدرة على طرح الأفكار الذى حددته الورقة ، وقال ان هناك اسبابا انسانية عامة اسهمت فى هذا التحول مثل قيم الحرية والمعاناة من الاضطهاد والظلم. وتحدث ايضاً رئيس منبر السلام العادل الطيب مصطفى عن اسباب صعود الإسلاميين وقال ان ذلك جوهر الحقائق القاطعة بالحاكمية للدين الإسلامى فى نهاية الأمر، وهو تحقيق لوعد الله بتمكين المستضعفين. الا ان الورقة وتعقيب امين حسن عمر أثارا ردود افعال غاضبة من القيادى الإسلامى بالمؤتمر الوطنى شرف الدين علي مختار والذى اعتبر ماجاء فى الورقة وخاصة حديث امين حسن عمر الذى تحدث عن تبنى بعض الحركات الإسلامية للرؤيا العدمية وشعاراتها «فلترق كل الدماء» واهتمامها بالقشور والتطبيق الظاهرى للدين حياداً عن روح الحركة الإسلامية ومبادئها التى سادت فى السودان، وقال ان حديث غازى وأمين فيه كثير من التساهل، واضاف «بمثل هذه الأفكار تشمتون علينا الشيوعيين وتجعلونهم يضحكون علينا»، الا ان غازى فى خاتمة مداخلات الندوة اكتفى بتعليق «يبدو ان البعض لم يفهمنا».