معظم شباب السودان ينأى بنفسه عن العمل السياسي. وتدل التجربة على انخراط فئة بسيطة من التلاميذ في تنظيمات الحركة الطلابية في مرحلة الثانوي و يتواصل نشاط بعضها في الجامعات، حيث يتعاظم العمل السياسي بنمو وعي الطلاب السياسي و حسهم الوطني وادراكهم لأهمية مشاركتهم في الشأن العام. ولقد لعبت الحركة الطلابية دورا تاريخيا محوريا في النضال السلمي لتحقيق الاستقلال ودعم النهج الديمقراطي و تقويض النظم الشمولية وتنمية قطاعات ومؤسسات الأمة المختلفة بقيادات مهنية واقتصادية اجتماعية و سياسية وعلمية و فكرية. وعموما ينشغل معظم الشباب بعد التخرج في مجالات العمل المختلفة وبناء قدراتهم وتشكيل مقبل حياتهم بالزواج وتربية الأطفال. . . وشيئا فشيئا يبتعدون عن العمل السياسي فيما عدا قلة من الفئات العقائدية الملتزمة. و في السبعينات وربما الثمانينات وما قبلهما كانت الحياة سهلة ومجالات العمل متوفرة ومشاكل الحياة اليومية مقدور عليها ولم يحس غالبية الشباب في السودان و ربما في العالم العربي كله بأهمية العمل السياسي، ولكن بمرور الزمن وتعقد الحياة المعيشية وتضاعف معدلات الفقر والعطالة وارتفاع معدلات الفساد واعتماد النظم الشمولية على استراتيجيات أمنية لقهر الشعوب وكبت الحريات، تضاعف الأحساس بالظلم ، و أحس الشباب في العالم العربي بان هنالك خللا في الدولة نتيجة لفساد الأنظمة الشمولية الاستبدادية، وأن استقامة حياتهم تستوجب التصدي لهذه الأنظمة. وبمرور الزمن تضاعف هذا الاحساس وتعاظم الاحتقان السياسي وتفاقم الاحساس بالظلم وزاد عن حده مما احدث التغيير النوعي المنتظر وانفجار ثورات الربيع العربي. فجر هذه الثورات شباب تفوقوا على قيادات الأحزاب في الساحة السياسية. و جمعت بينهم كراهية النظم العربية الشمولية الأتوقراطية الفاسدة والمفسدة والتي عجزت عن حل مشاكل شعوبها عامة ومشاكل الشباب خاصة، حيث تفشت البطالة وانتشر الفقر والمرض وكبت الحريات والمحسوبية واستغلال النفود وملاحقات و ارهاب الأجهزة الأمنية. وفي حالة مصر تداعى الشباب من كل ألوان الطيف السياسي وغير السياسي ومن كل حدب وصوب بالحواسيب عبر البريد الالكتروني و «الفيس بوك» وبالهواتف النقالة وفجروا ثورة 25 يناير 2010 المجيدة. و بالطبع ينتمي بعضهم لبعض الأحزاب النشطة. و لقد فاجأت الثورة الكل حتى الشباب أنفسهم وسائر الأحزاب بما فيهم حركة الأخوان المسلمين وكفاية والوفد. و بعد ظهور بشائر نجاحها انضم لها كل الشعب المصري بسائر مكوناته الاجتماعية والمهنية و السياسية. ولأن الاحزاب منظمة وجاهزة بدأت في سحب البساط من تحت أقدام الشباب وبدأت في التفاوض مع النظام الحاكم. ولكن يقظة الشباب واصرارهم وعزيمتهم ومواصلة ضغطهم من ميدان التحرير فوت على النظام الحاكم وبعض الأحزاب فرصة الالتفاف حول الثورة من الوهلة الأولى. وكما هو متوقع في مثل هذه الحالات واصلت فلول النظام سعيها للالتفاف حول الثورة لتفريغها من محتواها. فالنظام الذي حكم لمدة 56 عاما لايستهان به، فلابد أن يكون متشعبا ومتفرعا ومتغلغلا في كل مؤسسات ومكونات الدولة العامة والخاصة. فبالمحسوبية والجهوية واستغلال النفوذ تزرع النظم الشبابية جماهير في كل قطاعات و مكونات الدولة. لقد نجحت ثورة 25 يناير في المرحلة الأولى التي شملت اسقاط رموز النظام وقياداته العليا، وتم إجراء انتخابات مجلس الشعب، ولكن بقيت المرحلة الثانية والشاقة وهي تفكيك النظام وإرساء قواعد متينة لنظام ديمقراطي مستدام ومن ثم تحقيق أهداف الثورة. هذه المرحلة تتطلب وجود حزب يتمتع بموارد بشرية ومادية متينة و استراتيجية وبرنامج واضحين لحل مشاكل المرحلة وتحقيق مطالب الجماهير المعيشية و الروحية والسياسية، حزب له تاريخ نضالي ممتد عبر التاريخ ضد النظام البائد وقدم الكثير من التضحيات خلال هدا النضال. بمعنى آخر حزب تثق فيه الجماهير لأداء المهام العملية الجسام عشية الثورة. وهذا ما لم يتوفر للثوار، فشباب مصر تجمع وتداعى لاسقاط النظام وقد نجح في هذه المهمة بجدارة يحسد عليها غير أنه لا ينتمي لتنظيم واحد، رغم انه بدأ في تشكيل عدة منابر بعد نجاح الثورة. لذلك تعسرت الثورة وإلى الآن لم يتحقق الكثير من أهدافها، لذلك تجدهم، بين الفينة والفينة، يهرولون لميدان التحرير لرفع بعض شعارات الثورة التي لم تحقق. و في الانتخابات الأخيرة لم يفز الشباب بمقاعد ذات أثر. وكانت النتيجة كما هو متوقع اكتساح حركة الأخوان المسلمين للانتخابات. وهذه نتيجة متوقعة و منطقية فلقد اجتمعت كل عناصر النجاح في حركة الأخوان المسلمين، فهي حركة عريقة ومتينة ولها تاريخ نضالي طويل وممتد عبر نصف قرن من الزمان ونجحت الحركة في تنويع اساليب نضالها وفق متغيرات النظام الحاكم وتسلطه عليها و تعرضها لكل أنواع الصلف والعنت والإرهاب. وخلال هذه الفترة مكنت الحركة نفسها اقتصاديا رغم محاربة النظام البائد لها ظلما «قضية شركات توظيف الأموال وسلسبيل وغيرها» وقدمت التضحيات الكبيرة عبر تاريخ مصر. واستراتيجية الحركة التي قدمها الشيخ الدكتور محمد بديع المرشد العام لحركة الاخوان المسلمين عبر مختلف أجهزة الاعلام بعد انتصار الحركة في الانتخابات الأخيرة، متوازنة ومقبولة لمعظم جماهير الشعب المصري بل وربما الاسلامي عامة، وآراؤه مشابهة لأراء الشيخ الغنوشي والشيخ القرضاوي المعتدلة والواقعية. طبعا الآن كل عيون البشرية موجهة نحوهم لتقييم أدائهم، فالعبرة ليست بالقول ولكن باتباع القول بالعمل؟ قال عزّ من قائل: «يأيها الذين ءامنوا لم تقولون ما لاتفعلون «2» كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون «3»» سورة الصف. والآن بدأ العد لحركة الأخوان المسلمين التصاعدي أو التنازلي فالكرة في ملعبهم. أما حركة الشباب المصري فقد تحولت لمجموعة ضغط تتابع ما تبقى من خطوات لتحقيق أهداف الثورة وكانت شعارات جمعة الكرامة في 27 يناير 2011 الاسراع في انهاء المجلس العسكري و محاكمة الفلول. وفي أول شهر فبراير 2012، استشهد 70 شخصا في استاد بورسعيد بعد انتهاء مباراة كرة قدم فاز فيها المصري علي الأهلي، ويحق لشباب بورسعيد أن يحتفل وبالطبع لا يوجد أي مبرر منطقي لضرب وقتل مشجعي الأهلي، لذلك أجمع الكل على توجيه الاتهام صراحة لفلول النظام البائد بغرض خلق فوضي تأكيدا لقول حسني مبارك: «أما نظام العسكر والأمن أو الثورة و الفوضى». وما زال الشباب يواصل التظاهر والضغط من ميدان التحرير ليقضي على مؤامرات الفلول وسدنة النظام الشمولي البائد. المشكلة أن هؤلاء الشباب لايمكن أن يكوّنوا حزبا متجانسا لتباين اتجاهاتهم وانتماءتهم ولكن بالطبع يمكن استيعابهم في الأحزاب القائمة في الساحة السياسية وقد تتبلور تكتلاتهم لأحزاب في المستقبل. هذا هو المشهد السياسي في مصر باختصار شديد، وربنا مع الشباب والشعب المصري العظيم. على ضوء هذه التجربة يمكن النظر لحالة السودان. فإذا آثرنا السلامة ولم ندفع بشبابنا ذوي الحس الوطني العالي إلى اتون معارك غير محسوبة العواقب، واقتنعنا بطريقة السلامة أولا وهو النضال السلمي لتمكين التحول الديمقراطي وتداول الحكم عبر صناديق الاقتراع، فلابد من البدء للتحضير بوضع خطة لها والبدء في تنفيدها الآن. والأمل الكبير في الشباب والشعب السوداني العظيم. وأولى الخطوات للشباب الذي اختار المشاركة الوطنية في الحكم هي الانتماء لحزب من الأحزاب القائمة حاليا أو لحزب جديد. والمنهجية السليمة للاختيار هي البدء بتحديد معايير للحزب الذي يود الانضمام له و المؤهل ليكون حزبا حاكما في المستقبل القريب أو البعيد ولايهم متى. هنالك عدة معايير للتوصل للاجابة السليمة، أذكر منها: * هل للحزب استراتيجية وبرنامج واضح يمكنه من تأسيس حكم راشد يحقق مطالب الجماهير المعيشية والروحية والسياسية؟ * وهل للحزب تاريخ نضالي ممتد عبر التاريخ و قدم بعض التضحيات لتحقيق بعض مطالب الجماهير في المراحل السياسية المختلفة التي مر بها السودان؟ * وهل سياسات و مواقف الحزب من النظم الشمولية والدكتاتوريات العسكرية التي حكمت البلاد سليمة ومتوافقة مع مطالب الجماهير؟ * و هل الحزب ملتزم بالنهج الديمقراطي في إدارة شئونه؟ * هل يدير الحزب الصراعات السياسية داخله بالنهج الديمقراطي الحضاري؟ * ما هو أداء الحزب عندما آل اليه الحكم، هل نفذ برنامجه الانتخابي؟ و هل نفذ مشاريع تنموية مناسبة في الظروف الاقتصادية والسياسية التي مرت بها البلاد حينها وفي الفترة التي قضاها على سدة الحكم؟ وهل كان تعامله مع المعارضة ديمقراطيا وحضاريا؟ أو كان متهافتا على كراسي الحكم وداس على كل القيم والمباديء والمثل التي كان يدعو لها، وهل قيادات الحزب فاسدة؟ ومادرجة فساد الحزب؟ وهل حارب الحزب الفساد أو كان راعيا له؟ أمام شباب السودان الراغب في المشاركة بفعالية في مستقبل السودان حتى لا يتكرر فيه ما حدث لبعض الثورات العربية التي سحب من تحتها البساط قبل أن تتحقق أهداف الثورة، مصر مثالا، أحد ثلاثة خيارات هي: «1» الانضمام لأي حزب من الأحزاب الموجودة حاليا في الساحة وفق المعايير المقترحة أو التي يضعها بنفسه، أو : «2» السعى لتكوين تكتل للأحزاب الديمقراطية الحديثة المتفقة على استراتيجية وبرنامج واحد للمرحلة الحالية ومتقاربة في القدرات. ولضمان نجاح هذا التكتل ليكون أكثر التزاما وتنسيقا مع بعضهم البعض بطريقة أفضل من أحزاب قوى الاجماع الوطني، يجب أن يجمع على استراتيجية موحدة و خطة موحدة وبرنامج سياسي موحد. ولا يسمح لحزب داخل التكتل باتخاذ وتنفيذ قرارات سياسية منفردا. تتمركز قوة هذا التكتل في وحدته وتماسكه. ان التكتلات الحالية هي تنسيقية ولكنها مفككة وغير ملتزمة وفشلت أكثر من مرة في تنسيق عملها، أو : «3» التداعى بكل الطرق لتكوين حزب جديد والمشاركة في وضع دستوره ولوائحه من نقطة البداية، والدعوة هنا موجهة للأغلبية الصامتة التي لم تنضم لحزب من قبل وزهدت في الأحزاب الموجودة حاليا، وللمجموعات التي كونت منابر أو أحزاب صغيرة وهي في بداية الطريق. على أن تكون عضوية الحزب مفتوحة للأغلبية الصامتة و لكل من يرغب من منسوبي الاحزاب الديمقراطية الأخرى، علما بأن هذا الحزب الجديد يدعو لتطبيق الديمقراطية الليبرالية المعدلة التي لا تتعارض مع الاسلام، و هو لا ينتمي أو يدعو لدعم طائفة أو جهة أو عقيدة أو لفكر شمولي. ويمكن تكوين هذا الحزب من مجموعة أحزاب أو منابر صغيرة موجودة في الساحة ولا يوجد فرق موضوعي بينها في التوجه العام أوالفكر أو الاستراتيجية ومستعدة للاندماج الكامل في حزب جديد. هذه دعوة للشباب لأخذ المبادرة في أيديهم لانقاذ السودان من مأزق النظم الديمقراطية الشمولية أو النظم الائتلافية الفاشلة.