من منا لا يستثيره الحنين إلى الماضي في أيامنا هذه؟.. كنت أمر راجلاً على قدمي بمحاذاة سور مدرسة أم درمان الأميرية الوسطى، فغمرتني الذكريات الندية وراح ذهني يطوي السنوات رجوعاً إلى منتصف الستينيات.. أيام اليفاعة ونحن تلاميذ بالمرحلة المتوسطة في ذاك المبنى. كانت المدرسة تتقاسم مبناها مدرستان متوسطتان، مدرسة أم درمان الأميرية وتحتل المبنى الرئيسي من طابقين.. ومدرسة ود نوباوي الوسطى «مدرستنا» التي تحاذي السورين الشمالي والجنوبي. والقسمة والنصيب «كما في الزواج» وليس المجموع، هما اللذان أوقعانا في مدرسة ود نوباوي بفصولها المتواضعة، بينما قذف بزملاء جاءوا معنا من مدرسة أولية واحدة إلى طابقين كادا أن يبلغا عنان السماء في نظرنا. وكنا لا نخفي حسدنا وبغضنا لهذه الزمرة المحظوظة التي تسعد بطلوع «السلالم» كل يوم كما يفرح أطفال اليوم باعتلاء السلم الكهربائي في عفراء مول..!! كنا ننفق الأيام الأولى لنا في المدرسة ونحن نجتر الأحزان ونلوك غضبنا على لجنة القبول التي رمت بنا كما يرمى السود في أكواخ الصفيح في جنوب أفريقيا، بينما سادتنا وزملاؤنا «البيض» يدرسون في قصور من طابقين. ورحت أضحك لوحدي كالمجنون وأنا استرجع الذكريات، فقد كانت شبابيك فصولنا تطل على زقاق كان يومها من أحط وأشهر أزقة البغاء العلني التي ترفع بيارقها في تلك الأيام..!! وكنا يومها مفتونين بكرة القدم، وكانت حمى الهلال والمريخ في أعلى درجاتها. وكان البلسم الشافي الوحيد الذي نكيد به زملاءنا في مدرسة الأميرية ونفاخر به في وجوههم وجود الأستاذ أمين زكي في صفوف معلمينا بمدرسة ود نوباوي، حيث كنا ندرس الرياضيات على يديه. وأمين زكي أو الصخرة السوداء أو نجم النجوم العرب كان أسطورة ذاك الزمن الكروي، وبفضله وفضل أستاذنا الصحافي الرياضي سيد صالح شهلابي كانت المدرسة تنظم مهرجانات رياضية يشهدها كبار نجوم ذاك الزمن... جكسا بجلالة قدره، وإلى جانبه سبت دودو «صقر السودان الأسود» وبرعي وإبراهيم يحيى وديم الصغير «رحمهما الله» وغيرهم. وكانت تلك المهرجانات تستقطب عشاق الكرة من خارج أسوار المدرسة، وقد أسهم هذا المناخ في بروز الكثير من التلاميذ في عالم كرة القدم.. كمال عبد الوهاب، فوزي المرضي وقاسم أحمد عثمان ومحجوب الضب وغيرهم. وكنا بصفتنا صبية «هلالاب» نعشق الأزرق، ولكن الله سلط علينا ماجد «هداف المريخ المرعب» الذي أحال أيامنا تلك إلى أحزان متوالية. وجاء الفرج في ليلة المولد على يد الشبل القادم من نادي الربيع.. نصر الدين عباس جكسا الذي افترس المريخ بهدف عبقري ليعلو الموج الأزرق كما علت أمواج «تسونامي» إعصار آسيا المدمر..!!