تشهد الكويت منذ أكثر من عامين حلقة تكاد تكون مفرغة من كثرة وسرعة تكرارها، في خلافات بل صراعات بين البرلمان ومجلس الوزراء، تمثلت آلياتها وتكتيكاتها في استجوابات للوزراء تعقبها استقالة رئيس الوزراء ثم اعادة تعيينه بطاقم جديد. وقد تطور الوضع مؤخرا الى درحة من الحراك العنيف تمثل في اقتحام بعض الجمهور لمقر البرلمان ومن ثم حله واجراء انتخابات جاءت بأغلبية معارضة وتعيين رئيس وزراء جديد من فرع آخر من الأسرة الحاكمة غير تلك التي ينتمي اليها السابق.. ولكن برز اعتراض منذ الوهلة الأولى على الحكومة،والتي حاول رئيس الوزراء أن يشرك في مشاوراتها وعضويتها البرلمان والذي اعترضت أغلبيته المعارضة على المحصلة النهائية لأسماء الوزراء. وربما تترآى القراءة المتعجلة للمشهد، وكأنه شكل من أشكال حراك الربيع العربي أو من تداعياته بدرجة ما. ولكن الواقع أن مرجعية ذلك مضمونا وشكلا هي طبيعة العلاقات السياسية المستندة على ارث تاريخي للمجتمع الكويتي جعل الممارسة الديمقرطية ذات حيوية وزخماً في حدود الأعراف الذاتية التي يدرك خصائص شفرتها أفراد المجتمع قادة وفعاليات وجمهور.والتي في اطارها تمارس المنافسة والصراع مهما بلغت حدته ولو الى الدرجة التي ربما يراها مراقب من الخارج وكأنها بوادر تغيير سياسي قد يسميه بلغة الاعلام جذريا.. ولأجل فهم خلفيات المشهد الكويتي، ربما كنا في حاجة الى قراءة لتلك الخصائص بمرجعيتها تاريخا وتمثلاتها ممارسة حاضرا وعوامل التطور العملية والأقدار التي تؤثر في تشكلها واقعا. فقد تأسست دولة الكويت الحالية على أساس متميز من التعاقد الاجتماعي بين الفعاليات التي كانت تمارس النشاط التجاري وبين آل الصباح الذين استقروا في هذه البقعة من الجزيرة العربية منذ القرن الثامن عشر بحكم الحقوق القبلية في الحركة والاستقرار وأعرافها وأحكامها المتعارف عليه بين سكان الجزيرة.. ومن ثم صار لآل الصباح الحكم برضى وتوافق بحكم الخصائص والقدرات النوعية التي تمايزت بها كل من الفئتين. وقد حافظ آل الصباح على ذلك التقاسم في حين تحرك أبناء عمومتهم من أهل التجارة آل خليفة الى منطقة البحرين الحالية وصاروا حكاما لها الى اليوم. ثم كان دخول البترول كمصدر قوة لآل الصباح في ادارة الحكم ولكن دونما اخلال بالخصيصة المميزة للكويت بعقدها الاجتماعي القائم على الحاجة الحقيقية للتعاون والمساندة بين الفئتين الفاعلتين بآلية من حرية الرأي، صارت سمة للمجتمع الكويتي بمختلف مستويات مؤسساته، ابتداء من الأسرة الشخصية والنشاط الخارجي لعامة الناس الذين هم في النهاية أبناء الفئتين المتعاقدتين عرفا. وقد تأسست الممارسة السياسية بمؤسساتها في ظل هذ الجو من حرية الرأي والتعبير للأفراد سلاحا وآلية للتغيير. ولقد شهد المجتمع الكويتي تطورا فكريا وثقافيا واجتماعبا منذ خمسينيات القرن الماضي تمثل في تأثر القطاع المتعلم بالتوجهات الفكرية لحركات القومية العربية والناصرية والإسلامية نتيجة للبعوث الدراسية الى الخارج، ومصر بصفة خاصة، ثم فتح الكويت أبواب العمل لأبناء العرب عامة ولأبناء فلسطين خاصة مما كان له تأثير أيضا على التوجهات الفكرية والعملية . وقد اتسمت الممارسة العملية للشباب الكويتي لتلك المباديء بالحماس والحيوية في تفاعله مع القضايا العربية والإسلامية مدعوما بسخاء حكام الكويت وتفاعلهم حيال تلك القضايا مع توفر حرية الحركة.. ثم ظهرت منذ الثمانينيات درجة من الحراك الفكري والثقافي والاجتماعي نحو السلفية كرد فعل حمائي حيال ثورة الخميني في إيران.وربما كان ذلك الحراك مدفوعا من خارج الكويت في اطار استراتيجية بعض القوى الاقليمية. وأدى ذلك الى بعض التوتر ومن ثم التنبه الانتمائي لدى قطاع من الشيعة والذي يضم نسبة عالية من أصحاب الأعمال الرأسماليين. وقد اتخذ رد الفعل ذلك أحيانا مظهرا من العنف خلال الحرب العراقية الايرانية. ثم جاء الغزو العراقي والذي كان من مفارقاته أن منح الفئة الشيعية، نتيجة لمشاركتها الفاعلة في المقاومة الداخلية، حرية للممارسة العملية لمذهبهم مما أدى لمزيد من التسامح بين فئات المجتمع الكويتي بخروج شعائر الفئة الشيعية من عالم المسموع والمتوهم أحيانا الى عالم المشهود. وقد ساعد على ذلك ما اتسم به المجتمع الكويتي من اعتدال في سنيته وشيعيته بحكم طبيعته المدنية المنفتحة والباحثة عن التوافق مع الآخر بحكم العلائق التجارية ومصالحها و بحكم موقعها البحري والتواصل الحضاري مع العالم الخارجي. والواقع أن الممارسة الشيعية في الكويت لا تكاد تحس فيها تلك السمة الطائفية. وهنالك قطاع مقدر مرجعيته الفكرية والمشيخية ليست الى «النجف الأعظم» أو «قم» وانما الى لبنان ومدرسة السيد محمد حسين فضل الله.بالاضافة الى قطاع آخر يكاد أن يكون ارتباطه بالمذهب الشيعي تاريخيا قدريا.ولقد ظلت مؤسسة الحكم ذاتها تحتفظ بعلاقة خصوصية مع ايران الخمينية متفاهم عليها بشفرة بين الطرفين يراعى فيها الوضع الاقليمي الدقيق للكويت وبقطاعها الشيعي المؤثر على المجال الاقتصادي على الأقل. كما أن القوى الاقليمية الحذرة من النفوذ الايراني تتفهم أيضا تلك الخصوصية لوضع الكويت. وقد شهدت فترة ما بعد الغزو العراقي أيضا انتقال أفراد ومجموعات أسرية من الجوار الى الكويت بحكم التداخل القبلي مما كان له أثر على التوجه الاجتماعي المدني المنفتح في الكويت، ليصير أقرب للتكتل القبلي سياسيا وللنظرة السلفية فكريا، كما يتمثل جانب من ذلك حيال أوضاع المرأة وحقوقها. ولئن كان ذلك التطور والتحول في المجتمع الكويتي لم يطال الخصائص والسمات الأساسية للمجتمع الكويتي بعقده الاجتماعي المتميز، الا ان الممارسة العملية بأعرافها وحريتها بلا شك كانت تتأثر بذلك في تمظهرها الخارجي على الأقل وفي آلياتها بما تشهده المجتمعات من تطور وتحور. ولكن مهما كانت الدرجة التي تتصاعد اليها الممارسة العملية للقوى السياسية من خلال البرلمان فقد ظلت في حدود القبول بخيارات الأسرة الحاكمة ذات السمة الأبوية والاكتفاء بمواجهة الوزراء والضغط عليهم واضطرارهم للاستقالة أحيانا كثيرة. ولكن مظهر المعارضة البرلمانية منذ فترة صارت تترآى وكأنها رفض لاختيارات القيادة السياسية،وذلك من خلال استقصاد رئيس الوزراء شخصيا، مما أضطرت معه القيادة لاستبداله بشخصية أخرى من داخل الأسرة الحاكمة. بعد أن كانت تكتفي في المرات السابقة باستبدال طاقم الوزراء. ولاستبطان هذا التحول النوعي في ممارسة المعارضة البرلمانية واصرارها على فرض خياراتها بالكامل، فربما كان علينا النظر في تاريخ الضلع الأساسي في منظومة الحكم في الكويت وما طرأ عليه من تحولات طبيعية وقدرية منحت المعارضة سندا في تصلب مواقفها. لقد برزت الكويت دولة ذات كيان وسيادة على يد المؤسس «مبارك الكبير» والذي نص الدستور الكويتي على أن ولاية الحكم هي في أبنائه، الذين تمثلوا في أربع من الأسر الرئيسية. ثم ان الأقدار وتوفر شروط قدرات القيادة بحسب الظروف القائمة في وقت ما أدت الى أن تنحصر القيادة في أسرتي السالم والجابر تداولا للإمارة وولاية العهد.ثم قادت ضرورات الحكم بأقدارها مؤخرا لأن تتولى أسرة الجابر مسؤولية الإمارة وولاية العهد الى جانب رئاسة الوزراء. ولكن مهما كانت الأسباب العملية وضرورات الحكم لذلك التحول فان قطاعا من الجناح الآخر لم يكن راضيا بل ربما انتبه البعض من الأسرتين الأخريتين اللتين صارتا بعيدتين عن الامارة منذ حقب. ولما كانت طبيعة العلاقات الأسرية في الكويت لا تتيح تصعيد الخلافات بحدة على المستوى العملي، فربما تكون أجنحة من الأسرة الحاكمة قد لجأت لمساندة ودفع المعارضة السياسية والبرلمانية، وان اختلفت أجندتها الفكرية والسياسية. ولا شك أن دخول أجنحة من الأسرة الحاكمة في المعركة السياسية قد منح المعارضة قوة دافعة وظهرا حاميا بقدر ما قلصت من قدرة مؤسسة الحكم في المجابهة وفرض ما تراه مصلحة عامة بعيدا عن المناكفة السياسية. وربما عملت هذه الأخيرة على سلب المعارضة هذه القوة المكتسبة من خلال محاولة احتواء عناصر من الأسرتين اللتين ظلتا بعيدتين عن القسمة الفاعلة في الحكم، كما تبين طرف من ذلك في اختيار رئيس الوزراء الحالي،اضافة لكسب تأييد فعاليات من الجناح الذي كان يتقاسم مفاصل الحكم حتى وقت قريب. ربما يكون التحليل السابق هو قراءة لاحد العناصر التي تقف وراء موجهات المشهد السياسي في الكويت، ولكنه لا ينفي أو يستوعب بقية العناصر التي أدت بالوضع الى المشهد الحالي. فهنالك مطالب حقيقية لاصلاحات سياسية واقتصادية على مستوى البرامج والتنفيذ ومستوى الأفراد المنفذين. فالكويت اليوم ليست هي كويت الأمس بترابطها وتداخلها الاجتماعي الأسري البسيط. فقد شهدت خلال العشرين سنة الأخيرة تطورا وتحولا على المستوى الفكري والثقافي بل الديمغرافي وفي مجالات وصيغ النشاط الحياتي المعيشي. ولعل مما يمكن أن يزيد الوضع تعقيدا أن المجموعات التي تمثل هذه التحولات، عقائديا وفكريا وقبليا وطائفيا وقطاعا رأسماليا، تشهد انقساما رأسيا حيال القضايا والخلافات السياسية القائمة عللى مستوى المواقف والتحالفات، مما يقتضي مواكبة واستيعابا ومعالجة قائمة على ما تأسست عليه الكويت مبدأ في ميلادها الأول. السفير عبدالله عمر [email protected]