جاءت الجمعية التشريعية في عام 1948م، في إطار التدرج الدستوري السلمي بقيادة حزب الامة الذي كون من قوى الساحة السياسية السودانية من مختلف المستويات التعليمية (الاكاديمي والديني) ومختلف المشارف الاجتماعية، واجتاز بهذا التحالف العريض كل مراحل المعترك السياسي حتى تحقق الاستقلال عام 1956م، كانت الجمعية التشريعية عبارة عن منبر متاح لكافة السودانيين واستطاعت ان تمارس دورها الى ان جاءت اتفاقية الحكم الذاتي.. بعد التوقيع على اتفاقية الحكم الذاتي في فبراير 1953م - نوفمبر 1953م جرت اول انتخابات برلمانية في 1953م، وقد شملت جميع انحاء السودان وتحت اشراف دولي برئاسة الخبير الهندي سكومارسن. شارك حزب الامة في الانتخابات وهو ينادي بالاستقلال التام وتحت شعار السودان للسودانيين وعرف تحالف حزب الامة بالجبهة الاستقلالية كما شارك الحزب الوطني الاتحادي وقد اندمجت تحت مظلته كل الاحزاب الاتحادية كحزب الاشقاء بجناحيه الازهري/ نور الدين والاتحاديين وكان الكل ينادي بضرورة وحدة وادي النيل. اسفرت الانتخابات عن فوز الحزب الوطني الاتحادي بعدد 53 مقعدا ونال حزب الامة 22 مقعدا وكانت مفاجأة غير متوقعة تقبلها حزب الامة بروح طيبة وقد ذكر الاستاذ محمد احمد محجوب قطب حزب الامة وزعيم المعارضة البرلمانية في كتابه الديمقراطية في الميزان انه وبصفته البرلمانية طلب منه الحاكم العام مستر روبرت هاو ان يعلن الانهيار الدستوري وان حزب الامة لن يخسر شيئا بعد ان خسر المعركة الانتخابية وحصل على مقاعد لا تتناسب وحجمه الحقيقي فرفض الاستاذ محمد احمد المحجوب اعلان الانهيار الدستوري فاتصل الحاكم العام بالسيد/ الصديق المهدي رئيس حزب الامة فرفض الفكرة ورد عليه بحزم وحسم هكذا الديمقراطية ، كما هي عندكم مرة للمحافظين ومرة للعمال (يوم ليك ويوم عليك) ونرفض اعلان الانهيار الدستوري جملة وتفصيلا ولا نوافق عليه البتة حتى لا يكون حزب الامة امام مسؤولية تاريخية عن الذي حدث او سوف يحدث.. هكذا كانت وما زالت رؤى حزب الامة تجاه التداول السلمي للسلطة وكانت كافة جهوده في تلك الفترة توجه الى البحث عن الذات السودانية وتقرير المصير والاستقلال.. وقد تفهمت الثورة المصرية الوليدة عدلية وواقعية المطلب السوداني ورفضت مزايدات الاحزاب المصرية التي كانت سائدة وصارت بائدة. تقول روايات شهود عيان ان فوز الاتحاديين بأغلبية مقاعد البرلمان جاء لعدم العدلية في ترسيم حدود وعدد الدوائر الجغرافية فنجد ان المناطق التي تتمتع بأغلبية انصارية مطلقة منحت دوائر اقل نتيجة لكبر المساحة الجغرافية للدائرة وان المناطق الاخرى منحت دوائر اكثر لتصغير المساحة الجغرافية للدائرة . ولتثبيت هذه الحقيقة نجد ان حزب الامة نال اصوات اكثر في العدد الكلي. اتخذت حكومة الازهري قرارا بان يتم افتتاح البرلمان الاول بحضور اللواء محمد نجيب رئيس جمهورية مصر وقدمت الدعوة واستقبل اللواء نجيب استقبالا شعبيا رائعا يؤكد متانة علاقة شعوب وادي النيل ومدى تأييد الشعب السوداني للثورة المصرية. رأي حزب الامة ان زيارة رئيس مصر فرصة طيبة ليظهر شرعية واحقية مطلب الشعب السوداني في تحديد مصيره ونيل استقلاله ثمرة حصاد جهد مضني وشاق وعليه استنفر حزب الامة انصاره بالعاصمة والمناطق المجاورة للمشاركة في استقبال اللواء نجيب ورفع شعار السودان للسودانيين عاليا بالصوت والاعلام مع مراعاة اتباع الوسائل السلمية. وجد الاستنفار استجابة عظيمة وفورية وامتلأت العاصمة بالحشود من كل حدب وصوب وهي تهلل وتكبر ودوت الاصوات عالية منادية بأن السودان للسودانيين وعاش السودان حرا مستقلا تعم ارجاء العاصمة وكان مشهدا رائعا قويا هز اركان من تبقى من الاستعمار والحكومة الوطنية المنتخبة.. حتى يتسم قرار حزب الامة بالتظاهر السلمي بالجدية طلب من اتباعه ان يتركوا متاعهم وعصيهم وسكاكينهم في عدة اماكن متفرقة لتسهيل التسليم والتسلم وتخللت تلك العمليات اخفاقات نتيجة لصعوبة تجميع تلك الحشود الانصارية في مكان وزمان واحد لبعد مداخل العاصمة عن بعضها البعض كما ان تغيير سير موكب الضيوف المفاجيء قلب الموازين وادى للفوضى علما ان اصطفاف الحشود بدأ من ساحات المطار مرورا بشارع القصر حاليا حتى تمثال غردون وكتشنر وهناك حدث الهرج والمرج واطلق البوليس القنابل المسيلة للدموع بقذارة كما استخدم العيار الناري وحدث الاحتكاك وراح ضحيته العديد من الابرياء.. نعود ونقول ان حمل العصي والسكاكين كانت عادة مألوفة ومعلومة للرجل السوداني خاصة للقادم من الاقاليم لحماية نفسه وعرضه وتجارته من قطاعي الطرق واللصوص والحيوانات المفترسة.. وهي عادة تدل على شجاعة وصلابة وقوة الرجل السوداني ومتبعة في كل انحاء البلاد.. لابد ان نذكر في هذه السانحة رواية شاهد عيان تؤكد ان ما حدث لم يكن مخططاَ له وانها حدثت بصورة مفاجئة نتيجة لاستفزازات رجال البوليس للانصار الذين اصطفوا في تنظيم دقيق لتوضيح رأي الاغلبية تجاه مطلب الحكم الذاتي.. الرواية رواها لشخصي السيد/ أمين التوم (عليه رحمة الله) حيث قال انه في نفس اليوم اصطحب والده وزوجته واطفاله بعربته الخاصة للخرطوم لحضور الاستقبال عن كثب (وان هناك امرا مدبرا لذهبت لوحدي) وبالقرب من تمثال غردون (جنوب القصر) لمح بعض رجال البوليس يحاولون استفزاز الانصار وحينها تركت ابي واسرتي بالعربة وذهبت لفض الاشتباك وطلبت من الانصار ان يتراصوا بنظام وهدوء بالرغم من الكثرة (انصار وغيرهم) واستجيب لطلبي وهممت بالعودة للعربة وسمعت البعض يهمس للضابط بان هذا احد قادة حزب الامة وقبض عليّ ولم أرَ والدي واسرتي الا في المساء حين اطلق سراحي..! في الختام نؤكد ان قرار تمركز الحشود الاستقلالية بالعاصمة ما كان مؤامرة بل تأكيد لحتمية مطلب الاستقلال وكمؤشر يجبر الجميع الالتفاف حوله والانتباه له.. بعد هذه الاحداث اصبح الوجود الاستقلالي قوة لا يستهان بها وتفهم حزب الامة ان علاقة شعوب وادي النيل متميزة وهناك ارتباطات دينية وجغرافية وتاريخية ازلية لا يمكن انكارها بل انها تفرض وجودها الطاغي والطبيعي في مسيرة شعوب وادي النيل نحو الاستقلال والحياة الحرة الكريمة..