في 29 فبراير 1924 أُفتتحت مدرسة كتشنر الطبية التي تعتبر أول مدرسة طب في شمال إفريقيا تنشأ على منهج متناسق ومتكامل ،وظل السودان متقدماً في الطب والصحة في المنطقة،ويكفي أن أول عملية نقل كلي جرت في الخرطوم قبل 46 عاماً كانت على يد النطاس البارع الدكتور عمر بليل، وكان المريض سعودي الجنسية،وكان بليل من أوائل من تخصص في أمراض الكلى خارج أوروبا والولايات المتحدة،هذه مؤشرات على أن الصحة في بلادنا كانت في عافية،ونال الطبيب السوداني شهرة في الجدارة والتميز وحسن الخلق المهني ليس على المستوى العربي بل حتى في أوروبا يحظون بتقدير خاص. دوام الحال من المحال فالتدهور الذي أصاب أوجه الحياة في بلادنا على مر العهود لم يستثن الوضع الصحي والطبي ،وهذه سنة الحياة،ولكن يبدو أن التراجع في القطاع الصحي ليس كله مما لا يمكن تداركه،فبعضه بما كسبته يد المسؤولين عن القطاع الذين ظلوا خلال العقدين الماضيين يتصارعون ليس بين من ينتمون الى الحكم ومعارضيهم، وانما بين أهل الجلد والرأس الحكومي ، حتى قفزت تلك الصراعات خارج حوش الصحة الرسمي والحزبي. يضاف الى ذلك ضعف ما يخصص للخدمات الصحية من موازنة الدولة والدخل القومي، إذ أنه لم يتجاوز في أحسن أحواله 8%، بينما الرقم المطلوب حسب معايير منظمة الصحة العالمية 35%،وانعكس ذلك على الوضع الصحي، ومن مؤشرات ذلك حسب آخر دراسة رسمية " مسح صحة الأسرة" أعلنت نتائجها في أغسطس الماضي وهي جهد مشترك بين وزارة الصحة والجهاز المركزي للاحصاء السكاني ،حيث أظهرت ارتفاع معدلات وصفت ب«المزعجة» فى مجالات سوء التغذية وسط السكان وارتفاع معدلات وفيات الأطفال والأمهات، وبلغت معدلات وفيات الأطفال دون سن الخامسة 78 حالة وفاة وسط كل ألف حالة ولادة حية، بينما بلغت نسبة وفيات الأمهات 216 حالة، وسط كل 100 ألف حالة، وبلغت معدلات وفيات الاطفال حديثي الولادة 33 حالة وفاة وسط كل ألف حالة ولادة، وبلغت نسبة نقصان الوزن الحاد والمتوسط لدى الأطفال 32%.،بينما يقول المرصد الصحي العالمي إن احتمال الوفاة قبل سن الخامسة 108 لكل ألف وليد حي. و حسب معايير منظمة الصحة العالمية، فإن السودان من أقل خمس دول انفاقا على الصحة، ولم يلتزم حتى بالاتفاق الأفريقي بين الزعماء الأفارقة في أبوجا،بصرف 15% على الأقل من ميزانية التنمية على الصحة،وفي أحدث تقرير أفريقي عن مدى صرف البلدان السمراء على أطفالها جاء السودان في ذيل القائمة ، جاء بين الدول الأقل صرفا مع أنغولا وبوروندي وجزر القمر والكونغو الديمقراطية و إريتريا ، وغينيا بيساو وسيراليون ،على الرغم من ان اقتصاد السودان هو السادس أفريقيا أي أن المشكلة ليست في وضعه الاقتصادي وانما ضعف اهتمامه بالصحة وغياب الارادة السياسية التي جعلت دولة مثل ماليزيا تصرف على الصحة والتعليم 65% من دخلها القومي، لذا يتقدمون الى الأمام ونتقدم نحن الى الخلف. الأرقام لا تكذب ، ولكن وكيل وزارة الصحة يتجمل ويحاول لي عنق الحقيقة عندما دافع قبل يومين عن الوضع الصحي ،ويقول إن مؤشرات تحسن الوضع في بلادنا انخفاض معدلات وفيات الأطفال والأمهات،وتقديري أنه يتلاعب بالأرقام عقب انفصال الجنوب حيث ذهبت النسبة الأكبر من تلك المعدلات مع الدولة الجديدة،كما انخفضت نسبة الإصابة بالايدز في السودان فجأة وبلا جهد لارتفاع النسبة في الجنوب الذي تطوقه دول حزام الايدز،ولكن ذلك ليس من إنجازاتكم يا وكيل الصحة،كما قال زعيم الحزب الشيوعي محمد ابراهيم نقد لوزير الزراعة خلال العهد الحزبي الأخير الدكتور عمر نور الدائم عندما تحدث في البرلمان ضمن انجازات وزارته بزيادة الإنتاج لارتفاع معدلات الامطار ، ان الأمطار ليست من انجازات الحكومة،فالطريق الصحيح هو الاعتراف بالمشكلة والسعي لمعالجتها والتشخيص هو أول خطوة نحو العلاج، ولا ما كده أيها الطبيب الوكيل..!!