أصغر طفل سودانى مبتدئ يدرك من واقع المشاهدات اليومية التى تتكرر أمامه صباح مساء، أن السودان دولة زراعية من الدرجة الاولى من حيث الخصائص والسمات، وعالمياً كمان «عينى بارده»، وهذه هى الحقيقة الوحيدة التى لا تحوجنا إلى دليل يتعبنا أو برهان يرهقنا.. فها هو النيل على عينك يجرى كأطول نهر في العالم «6 آلاف كلم» يتمدد متبختراً طول السنة من المنبع الى المصب في البحر الابيض المتوسط، وعلى ضفتيه نسجت شعوب افريقيا غزل حضاراتها ومارست طقوس ثقافاتها، ومازال النيل «لسه شباب» كما وثق له الفنان زكى عبد الكريم في رائعته ذائعة الصيت.. وبجانب رصيد نعمة النيل يمتلك السودان في بنك الثروات الطبيعية رصيداً ضخماً من حيث الكم من عملات الثروة الحيوانية التى تعيش على المراعى الطبيعية الغنية، ولكل حيوان مناخه الذى يناسبه من الصحراء شمالا التى تمثل قلادة الوطن، مروراً بكل المناخات الجغرافية، وانتهاءً بالاستوائى الكثيف الذى يؤكد أن الكلأ أحد العناصر التى تجمع تشاركية الناس بالرغم من الاقتتال والعراك السياسى الذى يدور سراً وعلانية بين حكومتى الشمال والجنوب، دون مراعاةً للقواسم المشتركة التي تجمع شعوب البلدين.. وبعيداً عن شاطئ السياسة المليء بالتماسيح وكل أنواع الاسماك والحيتان، دعونا نستريح تحت ظلال شجرة نعمة ثروة الأنعام التى يتمتع بها هذا السودان البلد المسحور والمغلوب على أمره في توظيف موارده وتطويرها وتنميتها بالقدر الذى يمنحها صفة القيمة المضافة في سلة الاقتصاد القومى التى تنوء بحمل الواردات الأجنبية بالقدر الذى بات يهدد سلامة الوطن وعافية الاقتصاد الوطنى، فانطبق علينا بيت الشعر المتحسر على سوء توظيف الموارد: كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول وعلى جوهر مضمون البيت الشعرى سابق الذكر نستطيع أن نقيس حجم تبديدنا لثرواتنا القومية بحسن نية موغلة في الجهل والمجاملات، أو بسوء نية ظاهره الرحمة وباطنه العذاب، كما هو الحال في منفستو خصخصة الكثير من مرافق القطاع العام. وما عودة الدولة الى احياء مرفق السكة حديد تحت شعار «لا بديل للسكة حديد إلا السكة حديد» إلا شهادة اعتراف وتأكيد على أن الدولة شفاها الله تتخبط تحت تأثير مس شيطان السياسة الذى سكن جسدها رغم التعويذات والتكبيرات الجهيرة التى ظل يرددها ولاة أمورنا منذ بواكير الاستقلال وحتى اللحظة.. ويبدو أن قبول الدعاء مرهون بتطابق القول والفعل سراً وعلانية، وهذا ما يجافي عالم ساس يسوس الذى يكرس لملء رئة الوطن بكربون مبررات فن الممكن، وهو المنطق الذي ساد بفقه الغاية تبرر الوسيلة في كل الاحوال والمناسبات. وبالعودة إلى البحث في سلة الفرص المتاحة للنهوض بقطاع الثروة الحيوانية في السودان الذى بلغت عائداته المالية في عام 2011م ما يفوق «700» مليون دولار، نجد أن هناك العديد من الدروب الآمنة باعتبارها مداخل لتنمية هذا القطاع، وكل منها يؤدى وباطمئنان إلى تحقيق الغاية المرجوة من تقوية جبهة الصادرات من الماشية واللحوم والجلود، مع زيادة في تغطية الطلب المحلى من الالبان في حدود «5400» مليون لتر في السنة، بالإضافة الى الجبن الابيض عالى الجودة، ولا ننسى تربية الأسماك والدواجن، وكل ذلك سيؤدى حتما الى حقن الاقتصاد الوطنى بمصل العافية بفتح فرص للتشغيل في بلد يجلس فيه على الرصيف «342000» عاطل عن العمل، وكم سيتنفس اقتصادنا الصعداء اذا ما تحقق له ذلك من مردود تفعيل موارده الحيوانية فقط، ناهيك عن الأخريات «اللهم اهد ولاة أمورنا».. وبقليل من ترتيب الأولويات يستطيع الجنيه السودانى منازلة الدولار تحت تشجيع وتصفيق مدوي من مواردنا المحلية. وبوصفها خطوة عملية على الدولة أن تتبنى بعقلية اقتصادية وليست سياسية برامج عمل بالتنسيق مع المولين الدوليين مثل صندوق دعم المانحين وبنك التنمية الإفريقى والصندوق الكويتى والعربى وبعض المنظمات المتخصصة كالايفاد والفاو وغيرها، على أن يتم ضخ موارد مالية في قوالب خطط وبرامج قطعية في إطار الخطة العشرية للدولة، وذلك لتحقيق اهداف محددة ومرتبطة بقطاع الثروة الحيوانية، مثل فتح وتحجير المسارات وإعادة إنبات المرعى، مضافاً اليها توفير الماء عن طريق تشييد الصهاريج والحفائر أينما وجد الحيوان. وصحة الحيوان لا يمكن المحافظة عليها إلا بعمل العيادات البيطرية المتحركة والثابتة ومراكز تحسين النسل على طول المسارات في كردفان وسنار والنيلين الأبيض والأزرق وفى دارفور الجريحة وفى بطانة الشرق، مع تأهيل كامل للأسواق والمحاجر ومراكز الأبحاث البيطرية.. وكل ذلك حتماً سوف ينعكس إيجابياً على مستوى وعي ومعاش المجتمع الرعوي الذى هو الوسيلة والهدف معاً في هذه المعركة التي يجب أن تديرها الدولة بفهم استراتيجى عالى المستوى ومواكب بالضرورة لفقه المرحلة عن طريق توظيف حقيقي لموارد مالية ظلت شبه مجمدة في قوالب النفرة والنهضة الزراعية.. وأحسب أن إدارة الموارد وتوظيفها في ظل رقابة مهنية دولية متخصصة على نسق مدرسة البنك الدولى في الادارة والتخطيط و التنفيذ والتقييم والتقويم تعتبر أفيد وأسرع خطى في الوصول الى حزمة الاهداف المصوب نحوها، وللمقارنة تفرسوا تجارب كل من الهند وبنغلاديش وماليزيا وهى دول لشعوب مثلنا في سلم التنمية، ولكنها غيرنا في التخطيط والتنفيذ والمحاسبة والحس الوطنى.. وجهراً أنادى وأقول راهنوا على تنمية الثروة الحيوانية وابقوا على مشروع تحسين الإنتاج الحيواني ووسعوا مظلته، ولاحظوا الفرق !! وأرجو ألا يرتد صوت ندائى صدى على جدار مكابرة الدولة التي يتعامل بعض المسؤولين فيها بلغة «سيبك منو.. ده كلام جرايد ساكت» !! وفى الجرائد نسبة عالية جداً من الخبر اليقين. ودمتم [email protected]