رحل عن دنيانا قبل سنتين خلت «12/3/2010م» الفيلسوف المصري المعروف الأستاذ الدكتور فؤاد زكريا، الذي أطلق عليه نفر من الكتاب ألقاباً عديدة، منها «شيخ الفلاسفة في العصر الحديث» و «رائد التنوير والعقلانية». غير أن كاتب هذه الأسطر يميل إلى نعته ب «رائد التفكير العلمي»، إذ أنه أبرز مفكري العرب المحدثين الذين دافعوا عن قيم العلم ودور العقل في تحقيق التقدم الإنساني المنشود. ولد فؤاد زكريا بمدينة بورسعيد في ديسمبر 1927م، تخرج في قسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة عام 1949م، ونال درجتي الماجستير «1952م» والدكتوراة «1956م» في الفلسفة من جامعة عين شمس، وعمل أستاذاً ورئيساً لقسم الفلسفة بجامعة عين شمس حتى عام 1974م، كما عمل أستاذاً للفلسفة الحديثة بجامعة الكويت «1974 1978م». وعمل مستشاراً للجنة الوطنية لليونسكو بالقاهرة، كما انتخب نائباً لرئيس الهيئة الاستشارية لليونسكو لدراسة الثقافة العربية. وناقش فؤاد زكريا وأشرف على العديد من الرسائل العلمية الجامعية، وتولى رئاسة مجلتي «الفكر المعاصر» و «تراث الإنسانية». وبشهادة الكثيرين من أهل المعرفة فقد قدم زكريا خدمة كبيرة للثقافة العربية أثناء إشرافه على هاتين المجلتين، وأضفى عليهما من روحه النقدية وأفكاره الخلاقة. وأسس بالاشتراك مع أحمد مشاري العدواني مجلة «عالم المعرفة» الكويتية الذائعة الصيت. ونال جائزة الدولة التقديرية «مصر» وجائزة الكويت للتقدم العلمي «1982م». ولعل من أهم أعمال الفيلسوف الراحل المنشورة: اسبينوزا ونظرية المعرفة، الإنسان والحضارة، التعبير الموسيقي، آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة، الثقافة العربية وأزمة الخليج، خطاب إلى العقل العربي، وآفاق الفلسفة. ومن ترجماته: دراسة لجمهورية أفلاطون، التساعية الرابعة لأفلوطين، العقل والثورة، الفن والمجتمع عبر التاريخ «مجلدان»، فضلاً عن العديد من المقالات والدراسات في صحف ومجلات سياسية وأكاديمية داخل العالم العربي وخارجه. تعرفت على كتابات فؤاد زكريا إبان بداية دراستي في كلية الآداب بجامعة الخرطوم في منتصف سبعينيات القرن المنصرم. وكنا ثلة من الزملاء والأصدقاء من المهتمين بالشأن الفكري والثقافي برغم بعد تخصصاتنا «التاريخ والآثار واللغة العربية» عن مجال الفلسفة التي تخصص فيها مفكرنا الراحل، بيد أن كتابات زكريا الفكرية والنقدية الآسرة لا يجد المرء فكاكاً سوى الانجذاب إليها. وكان كتابه المعنوّن «آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة الهيئة المصرية العامة للكتاب 1975م» أحد أهم الإصدارات الثقافية الجاذبة بأسلوبها الشائق برغم أنها تجوس في مواضيع تبدو مفردات بعضها عصية علينا في تلك المرحلة العمرية الباكرة، فقد احتوى هذا المؤلف على مواد ثرّة تشمل مشكلات ثقافية «أزمة العقل في القرن العشرين، نحن وثقافة الغرب، دفاع عن الثقافة العالمية، التعصب من زاوية جدلية، مشكلة الكم والكيف في الثقافة....الخ» ونقد للقيم الاجتماعية «القيم الإنسانية بين الحركة والجمود، أخلاقنا العلمية .. إلى أين؛ العالم الثالث والعقل الهارب..... الخ» والفلسفة والمجتمع «القومية والعالمية في الفكر الفلسفي، الفلسفة والتخصص العلمي، فكرة الآلية في الفلسفة الحديثة .....الخ» ولأفكار معاصرة «هيجل في ميزان النقد، من الذي صنع الأخلاق؟، كارل ياسبرز بين الفلسفة والسياسة، أفق جديد للفلسفة.. الخ». ويؤكد العديدون أن كتاب الدكتور زكريا والموسوم ب «التفكير العلمي» «سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1978م» من أهم إصداراته العلمية. وكان ذلك المؤلف هو الأكثر استحواذاً على تفكيري إبان دراستي الجامعية وحتى بعد انتظامي في سلك التدريس الجامعي، إذ كنت ولا زلت أوجه طلابي إلى قراءته لتنمية ملكة التفكير العلمي لديهم، خاصة أن التفكير العلمي كما هو معلوم في مبادئه العامة يتجاوز نطاق التخصصات. وأبان هذا المفكر بالأدلة المنطقية أن التفكير العلمي ليس هو تفكير العلماء بالضرورة، خاصة أن العالِم غالباً يفكر في مشكلة متخصصة لا يستطيع غير المتخصص الخوض فيها، بل قد لا يعرف في بعض الحالات أنه موجود أصلاً. وهو يستخدم في تفكيره والتعبير عنه لغة متخصصة يستطيع أن يتداولها مع غيره من العلماء، وهي لغة اصطلاحات ورموز متعارف عليها بينهم. أما التفكير العلمي الذي قصده فؤاد زكريا وهو محق في ذلك فهو ذلك النوع من التفكير المنظم الذي يمكن أن نستخدمه في شؤوننا اليومية، حين نمارس حياتنا المهنية أو في علاقتنا مع الناس ومع العالم المحيط بنا. وكل ما يشترط في هذا النمط من التفكير أن يكون منظماً وأن يبني على مجموعة من المبادئ التي نطبقها في كل لحظة، وأن نشعر بها شعوراً واعياً مثل مبدأ استحالة تأكيد الشيء ونقيضه في آن واحد، ومبدأ أن لكل شيء سبباً، وأن من المحال أن يحدث شيء من لا شيء. وأوضح زكريا أن ثمة عقبات تعترض طريق التفكير العلمي منها الأسطورة والخرافة، الخضوع للسلطة، إنكار قدرة العقل، التعصب «احتكار الحقيقة والفضيلة» والإعلام المضلل. ودعا إلى ضرورة الأخذ بالمعرفة العلمية وتبني المنهج العلمي، وحذر من فوبيا العلم «الخوف المرضي من العلم» أي كراهية العلم وعدم التعامل بمنهجه والركون إلى الأسطورة والخرافة في معالجة قضايانا ومشكلاتنا الحياتية. وهذا التوجه «فوبيا العلم» يخالف بالطبع ما تدعو إليه كل الشرائع السماوية وما حث عليه ديننا الإسلامي الحنيف من طلب للعلم سواء في العديد من آيات القرآن الكريم ومنها: «ربّ زدني علماً» «طه:114»، «يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات» «المجادلة: 11»، أو في الأحاديث النبوية ومنها: «طلب العلم فريضة على كل مسلم» و «أطلبوا العلم ولو في الصين». ولا يخالجني أدنى ظل لشك أن شعوبنا العالمثالثية «العربية الإسلامية والأفريقية» في أشد الحاجة لدعوة الاستنارة والعقلانية التي ظل ينافح عنها المفكر الراحل، سيما ونحن نتفيأ عصر العلم والتكنولوجيا. ولا غرو في ذلك بعد أن أصبحت المعلومات والمعارف من أهم مصادر القوة السياسية والاقتصادية والعسكرية، وتزداد أهميتها يوماً بعد يوم في موازين القوة العالمية. وفي ظني أن المنهج السليم الذي يجب تبنيه للنهوض من وهدة التخلف الذي تعيشه مجتمعاتنا الثالثية يكمن كما دعا إلى ذلك زكريا من خلال محاضراته ومؤلفاته في التصالح مع العلم ونبذ العداء لمناهجه والأخذ بأسبابه أياً كانت مظانها، مع الحفاظ على ثوابتنا العقدية والتمسك بموروثاتنا الثقافية التي تتواءم وروح العصر. ولا مشاحة أن تجارب بعض البلدان التي كانت في الماضي القريب تشابهنا واقعاً حضارياً وارتقت إلى مصاف الدول المتقدمة بفضل الأخذ بناصية العلم «اليابان والصين وسنغافورة وكوريا الجنوبية» لجديرة بالاحتذاء والتقبيس. فهلا شمرنا عن ساعد الجد لاستعادة أمجاد أسلافنا الأماجد الذين كانوا حداة ريادة فكرية وعلمية للإنسانية جمعاء، نأمل ذلك والله المستعان. وفي الختام لا يسع المرء إلا الترحم على المفكر الراحل فؤاد زكريا، سائلاً الله تعالى أن ينزل عليه شآبيب رحمته الواسعة، وأن يجعل الجنة مثواه جزاء ما قدم لوطنه وأمته من جلائل الأعمال، إنه سميع مجيب الدعاء. * عميد كلية الآداب بجامعة بحري