الراحل زين العابدين محمد أحمد عبد القادر كان رحمه الله رجلاً ودوداً منفتحاً على الناس ومقبلاً على الحياة، مشى بين الناس بالمودة وهو ينثر الطرفة والدعابة اللماحة، فأحبه معظم معاصريه رغم مسافات التوافق أو الاختلاف. وربما لهذا السبب فاجأ كثيرين بهذه المذكرات، فقد انتظروها من آخرين إلا هو، ظناً منهم أن طبيعة الرجل المتبسطة والمتصالحة لا تقوى على رهق الكتابة وتبعاتها التى قد لا ترضى البعض أو قد تغضب الآخرين. ومن الجيد أنه أقبل على هذا العمل بهمة عالية على عكس ما يفعل معظم الساسة في بلادنا الذين اختزنوا فى صدورهم صفحات مهمة من تاريخنا المعاصر، وآثروا أن يحملوها معهم الى القبر، ولعل أكبر دليل على علو همته فى هذا الشأن أنه قبل وفاته أودع تلك المذكرات في خزانته الخاصة ومعها مبلغ يغطي تكلفة طباعتها، مما يعكس إصراره على نشرها. وقد يختلف كثيرون مع سياق الروايات التى أوردها الكاتب، إلا أن من المفارقات الغريبة في هذه المذكرات ذاك الهجوم وتلك المرارة التى أودعها الكاتب في سطوره في حق الرئيس السابق جعفر نميرى، إذ كتب يقول: « صباح 19 يوليو1971م توجهت إلى الخرطوم قادماً من مصر «اجتماع مرسى مطروح». وحطت الطائرة في مطار الخرطوم الساعة الثالثة والربع عصراً. وكان في استقبالي كل من الرائد أبو القاسم محمد إبراهيم والرائد أبو القاسم هاشم والرائد مأمون عوض أبو زيد «كان اللواء خالد حسن عباس وقتها في مهمة رسمية في موسكو ويوغوسلافيا». وقال لي من استقبلوني إن الرئيس في منزله. وطلب أن أوافيه فور حضوري لتقديم تقرير مبدئي حول ما دار في مرسى مطروح. ووصلنا إلى منزل نميري « داخل القيادة العامة». وكان أول ما لفت نظرنا أن الحرسين اللذين يفترض أن يقفا وظهرهما على المنزل، يقفان بالعكس، ويبدو أنهما من المستجدين. الرائد مأمون عوض أبو زيد بحسه الأمني سألهما لماذا هذه الوقفة: فقالا: «هكذا قيل لنا أن نقف». فأمرهما بالوقفة الصحيحة ففعلا. وعندما دخلنا إلى المنزل أبلغنا الخادم أن نميري في غرفة النوم. وهو يطلب أن «توافوه إلى هناك». وبمجرد دخولنا الغرفة توجه الرائد مأمون لجهاز الهاتف السري وفي باله مسلك الحرس. وكان يعتزم الاتصال بجهاز أمن الدولة الذي يرأسه، وفي تلك اللحظة كنت احتضن نميري، وفجأة دخل علينا نحو خمسة عشر جندياً توضح قبعاتهم أنهم من «البوليس الحربي» والمظلات والمدرعات، وأمرونا برفع أيدينا إلى أعلى، ووضعت أفواه ثلاث بنادق بالسونكي في ظهر كل منا، وكان من بينهم ملازم اتكأ على «بترينة» وهو مضطرب الأنفاس. وأمر الملازم الجنود بأن يقودوا نميري إلى الخارج. وأراد نميري أن يلبس حذاءه فانتهره الملازم بقوله «بدون حذاء» وسيق في الساعة الثالثة وأربعين دقيقة إلى عربة «خمسة طن» مكشوفة وهو حافي القدمين في ظهيرة قائظة. وبعد ذلك جاءت عربة لاندروفر نقلت أبو القاسم محمد إبراهيم ومأمون عوض أبو زيد وعربة ثالثة نقلنا فيها أنا وأبو القاسم هاشم. وتوجه ركبنا إلى القصر الجمهوري، ودخلنا من البوابة الرئيسة. وهناك وجدنا ملازم ثان يتمشى في الممر بهدوء غريب، واللواء سعد بحر «كان قائد الحرس الوطني الجديد» يقف مرفوع اليدين مخفوراً. وسيق سعد بحر إلى الطابق الأول بينما بقينا نحن في الطابق الأرضي ووزعونا على الغرف، كل واحد منا في غرفة خالية من أي شيء وأغلقوا علينا الأبواب من الخارج. كانت المرة الأخيرة التي أرى فيها هاشم العطا تلك التي زارني فيها في غرفتي الكئيبة بالقصر الجمهوري عندما كنت معتقلاً هناك، كما إنني لم ألتق بالرائد فاروق عثمان حمد الله أو المقدم بابكر النور منذ ذهبا إلى لندن، وإلى أن أعدما رمياً بالرصاص في الشجرة. وكان الأمر قاسياً عليَّ للغاية على الصعيد الشخصي، وكان من الناحية العاطفية فوق قدرتي على الاحتمال والاستقبال والمواجهة. لقد كان انقلاب يوليو 1971م من العلامات الفارقة في مسار ثورة مايو، وبداية التحول في شخصية جعفر نميري الذي كان اسمه على كل لسان. وكانت هتافات «عائد.. عائد.. يا نميري» تصل آذانه فتزيده زهواً وغروراً. وبعد إعلان فوز جعفر نميري في الاستفتاء على رئاسة الجمهورية جرت مراسم أداء القسم لأول رئيس جمهورية في تاريخ السودان بمباني مجلس الشعب القديم بالخرطوم «كان ذلك في يوم الثاني عشر من أكتوبر عام 1971م». وبعد أداء القسم ذهبنا جميعاً لمكتب رئيس المجلس السيد الرشيد الطاهر بكر «رحمه الله» وكنا بلبس «الإسبلايت» الحمراء مع العلامات العسكرية التي كانت تميز أعضاء مجلس الثورة عمن سواهم من الضباط العاملين بالقوات المسلحة. وقبل أن يدور علينا الساعي بأكواب المرطبات نادى الرئيس جعفر نميري مدير مكتبه الرائد عمر محمد علي محكر وخاطبنا قائلاً: يا أخوان.. أخلعوا الإسبلايت الحمراء وسلموها للرائد عمر محكر، فالمسؤولية أصبحت مسؤوليتي. وهذه جمهورية وأنا رئيسها. وكان يتحدث دون خجل ودون تردد، ومن شدة التأثر سالت الدموع من مآقينا، إذ أيقنا أننا أمام شخصية جديدة. ليس هذا جعفر نميري الذي عرفناه ووثقنا فيه وقدمناه رئيساً. وخاطب نميري مدير مكتبه الرائد عمر محكر موجهاً إياه بأن يودع الإسبلايت الحمراء لأعضاء مجلس قيادة الثورة «السابق» في المتحف القومي أو دار الوثائق المركزية. هكذا أصبحنا «توابيت» في المتحف القومي ونحن في العقد الثالث من العمر. وكان ذلك في الثاني عشر من أكتوبر عام 1971م»!!