سنوات طوال من الحرب بين الشمال والجنوب ممتدة منذ العام 1955م لم تثن حكومة المؤتمر الوطني في الشمال والحركة الشعبية في دولة جنوب السودان، عن حرج الدخول في أتون حرب جديدة ربما ستكون (شاملة)، بدأت مؤشراتها تلوح في الأفق بعد المعارك الضارية التي اندلعت في مناطق هجليج بولاية جنوب كردفان ومناطق تلودي وسقوط أعداد من الضحايا في صفوف الطرفين خلال الأيام القليلة الماضية، وأن قلل منها الجانبان. لجأ الطرفان إلي تبني خيار التصعيد والمواجهة والتعبئة والتعبئة المضادة على حدود الدولتين بدلا عن الجلوس إلي طاولة التفاوض لحل القضايا العالقة، ووفقاً للقاص الألماني (توماس مان) الذي وصف الحرب بأنها ليست الحل للمشاكل وإنما (هي طريقة جبانة للهروب من مشاكل ومستحقات السلام)، فإن الطرفين يلوحان وكأنهما على اهبة الاستعداد للعراك وإن قلل مراقبون من إمكانية حدوث الحرب الشاملة، الا ان أكثر ما يخشاه المتابعون في الساحة السياسية أن تتحول تلك الحروب الفرعية إلى حرب أهلية جديدة وحرب شاملة وطويلة، تستنزف موارد كلا الدولتين السودان وجنوب السودان الشحيحة اصلا، بعدما لم يكد يلتقط السودان وجنوب السودان أنفاسهما من حرب الجنوب الفائتة التي ادت الى فقدان اكثر من مليوني مواطن سقطوا في اتون الحرب. اشتعلت المعارك الضارية أخيرا في مناطق هجليج الغنية بالنفط، تلتها هجمات على مدينة تلودي بجنوب كردفان فضلا عن حالة التعبئة والاستنفار في الدولتين وتصريحات رئيس دولة جنوب السودان سلفاكير ميارديت، الذي طلب بالامس من ولاة الولايات الحدودية الخمس مع السودان تعبئة جماهيرهم لمجابهة أي تحد أو خطر متوقع علي البلاد، على حد وصفه، لكنه أكد أن الجنوب لا ينوي الدخول في أية حرب مع السودان، لذا يذهب كثير من المراقبين إلى أن التوترات الحاصلة الآن و(حالة التجييش والتعبئة)، بين الشمال والجنوب تقف وراءها أسباب أخري غير الأسباب المعلنة كحل القضايا المعلقة بين الخرطوموجوبا المتمثلة في إعادة تقسيم عائدات النفط ورسوم العبور، وأزمة أبيى والحدود، مشيرين إلي أن مسار الاتفاق حول القضايا العالقة خلال الفترات الماضية لم يتقدم قيد أنملة منذ توقيع الاتفاق مرورا بانفصال الجنوب وحتى الآن. فيما تمضي قوي سياسية معارضة على ذات الطريق في تحليلها لمسببات التوتر وقرع طبول الحرب، ويذهب المسؤول السياسي بحزب المؤتمر الشعبي كمال عمر عبد السلام، إلي ان القضية في بعدها الحقيقي تتمثل في أزمة احتقان ومرتبطة بعدة ملفات وقضايا هى عبارة عن حزمة واحدة من الازمات كالحرب في جنوب كردفان والنيل الازرق ودارفور والقضايا التى صاحبت تنفيذ اتفاق السلام الشامل، فضلا عن وجود تيارات نافذة و(متطرفة ) لدى الطرفين تساهم في هدم العلاقة بين الدولتين. ويمضي القيادي في المؤتمر الشعبي في حديثه ل(الصحافة) عبر الهاتف امس الى ان الطريقة التي تعالج بها القضية من قبل الطرفين طريقة «قطاعي» ويري أن إيقاع الحرب الشاملة بين الدولتين اقرب من الحوار والحل السياسي، ويضيف ان المخرج يتمثل في الحاجة الي وعاء سياسي للنقاش وطرح القضايا بجرأة، وان الطريقة التى تتم بها المعالجة حاليا للقضايا العالقة وامكانية لقاء رئيسي الدولتين لا تعدو كونها مجرد لقاءات (علاقات عامة)، ويرجع عمر المشكلة الي طرفي الصراع نفسيهما، باعتبار ان حكومة السودان لا استطاعت كسب الوحدة ولا استطاعت توفير السلام، وكذلك الحال بالنسبة لحكومة الجنوب التي لم توفر الاستقرار والسلام لمواطنيها وأن الاتجاه الغالب يمضي في اتجاه الحرب الطويلة، ويضيف بالقول ان دخولنا كقوي سياسية مهم باعتبار علاقاتنا مع دولة الجنوب فضلا عن الدور الدولي والافريقي لانهاء النزاع والاقتتال. وذهب كمال الي ابعد من ذلك قائلا ان محاولات رئيس الآلية الافريقية رفيعة المستوي ثامبو امبيكي لا تعدو كونها (سمسرة سياسية) ولا تساهم في حل القضايا العالقة بين الدولتين «لذلك لابد من دور وطني ودولى في هذه المعادلة المعقدة، وان الحرب المحتملة تتمثل في ازمة الحكم في البلاد، ويتهم كمال عمر المؤتمر الوطني الحزب الحاكم بالفشل وعدم مقدرته على حل الازمات العالقة باعتبار ان المشكلة اكبر من مقدرة الحزب الحاكم وقياداته، ويرجح ان الحرب من مصلحة المؤتمر الوطني لتفاديه المطالبات بمستحقات التحول السياسي والديمقراطي وقصد الترويج وشغل الناس بالاستعداد للحرب مع الجنوب، ويعتقد ان الحل يكمن في الحل السياسي وتوسيع دائرة الحوار، مشددا على ان دق طبول الحرب القصد منه صرف الناس عن المستحقات الاساسية في المطالبة بالاصلاح السياسي وأن تحكم البلاد بقانون الطوارئ وفرض الواقع الامني. ورغم ان الحكومة في الخرطوم تؤكد انها لا تريد خوض حرب مع الجنوب كما نقل عن وزيرة الدولة بوزارة الاعلام، سناء حمد، الا انها تشير من طرف خفي الي ان موازين القوي حال اندلعت الحرب مع جوبا تتفوق من الناحية الاقتصادية والعسكرية ووحدة القرار السياسي والسند الشعبي قائلة (اننا نتفوق على الجنوب). لكن وعلى الرغم من تأكيدات الحكومة بعدم ابتدار الحرب والدخول فيها، يصعب التكهن بمآلات الوضع حال إندلاع الحرب الشاملة بحسب تصريحات وتحذيرات الطرفين، الا ان الخبير العسكري حسن بيومي يقلل من الحالة التعبوية وحالة التجييش بين الطرفين، ويقول ان الجانبين لا يمكن ان يصلا الي الحرب مستندا علي ان الدولتين لا تمتلكان المقدرة على اشعال الحرب من جديد، ويري ان التعبئة الحالية وحالة الشد والجذب بين الطرفين مجرد اخراج للهواء الساخن وتعبئة على الورق، مبينا ان مواطني الدولتين لا يؤمنون ولا يؤيدون الحرب لان الحرب يصنعها (الغبن) لذلك لا يوجد غبن بين الشعبين وتوجد مصالح مشتركة ويعتبر ما يحدث من تصريحات وتصريحات مضادة عبارة عن ملاحقة ومرواغة سياسية، ويضيف ان قادة الدولتين يؤمنون بنظرية المؤامرة ويحاولون بث خطاب التعبئة بغرض غض الطرف عن المشاكل والازمات الداخلية لدولهم، ويريدون شغل الناس بحديث الحرب. ويمضي قائلا ان الحرب لديها اسبابها الموضوعية وان الحرب لا تستأذن احدا لذلك ما يحدث عبارة عن ( ستر للمشاكل الداخلية).