ترعرعنا في قرية صغيرة على ضفاف النهر اسمها الداخلة، كان السودان في ذلك الوقت بلداً واعداً وكان الناس وادعين. وكان ذلك الحي القرية يضم أعداداً لا بأس بها من عضوية الحزب الشيوعي ومؤيديه النشطين في المجالات الثقافية والرياضية والإنسانية. وكانت أكثر لحظات طفولتنا إثارة عندما تصل الحي «كوامر» البوليس السياسي لاعتقال بعض أهلنا وجيراننا من الشيوعيين، وكنا نحن الصغار نزاحم الكبار لنسجل في ذاكرتنا الصغيرة لحظات اعتقالهم، ونكون حاضرين عند عودتهم إلى الحي بعد فترات اعتقال تطول أو تقصر للسلام والتحية والتضامن، نسترق السمع لقصصهم وحديثهم الذي لم يترسخ منه في وجداننا سوى النضال ضد الظلم والقهر وهذا بربى يكفي. وعلى بعد أمتار قليلة من منازلنا الممتلئة بنسخ الميدان السرية ومنشورات الحركة النقابية، كان مسجد العمدة السرور السافلاوي ينادي للصلاة فنلبي، وعند العصر كان بعضنا يحث الخطى لدار الشيخ الجليل «ود نواوي» لنتلقى بعضاً من علوم القرآن والدين. وكنا لا نرى تناقضاً بين كل هذا. وفي هذه الأجواء سمعنا عن عبد الخالق محجوب ومحمد إبراهيم نقد والحاج عبد الرحمن والتيجاني الطيب وغيرهم، ورسمنا لهم صوراً مختلفة عن الآخرين في مخيلاتنا. وكان والدي يحرص على أن نقرأ له الميدان ونشرات الحزب وبيانات الحركة العمالي، وهناك نتعرف أكثر على هذه الشخصيات. وأذكر وكنت ربما في الثامنة من عمري عندما رافقت أمي إلى ميدان المولد بمدينة عطبرة، لنستمع لليلة سياسية يخاطبها الأستاذ محمد إبراهيم نقد. وهناك رأيت أكبر تجمع بشري سجلته ذاكرتي حتى ذلك الوقت، وما أن استوى الزعيم على خشية المسرح الذي أعده عمال السكة حديد لهذه المناسبة، حتى أطلقت والدتي زغرودة شقت ذلك الصمت تحية لقائدها، وذلك وسط اندهاشي، ولم أجد ما اتضامن به مع تحية أمي سوى التصفيق. إن زغاريد النساء في المجتمعات التي جئت منها تطلق فقط عند استقبال فارس منتصر، أو شيخ ذي تقدير رفيع أو زعيم كبير، وكان محمد إبراهيم نقد كل هؤلاء عند أمي وكثيرات مثلها. لقد كان هذا القائد يعبر عن آمالها وأحلامها في الحرية والانعتاق والغد الأفضل. لقد كانت الساحة يومذاك ممتلئة بالنساء اللواتي شاركنها الزغاريد، وبالعمال الذين لم يملوا الهتاف «عاش نضال الطبقة العاملة» وبالمزارعين الذين جاءوا ليستمعوا للقائد من أم الطيور وبربر والعكد والباوقة وغيرها. ثم سمعت بالزعيم نقد مرة أخرى ووالدي وبعض الجيران يلتفون حول المذياع الذي كان ينقل كغراب الشؤوم أنباء إعدامات قادة الحزب الشيوعي في يوليو 1971م، ثم يتوقف المذياع ليعلن أن محمد إبراهيم نقد لا يزال هارباً، فيتنفس أبي الصعداء ويحمد الله كثيراً على نجاة الزعيم من موجة الإعدامات، ثم يلتفت للذين حوله ويقول «ما بلموا فيه تاني» ولم يلموا. وظللنا نسمع به طوال طفولتنا وبعض صبانا حتى رأيته مرة ثانية في الميدان الشرقي بجامعة الخرطوم يبشر شعبنا بغدٍ أفضل بعد انهيار الدكتاتورية العسكرية الثانية. ليختفي ثانية عندما سحقت دبابات الحركة الإسلامية الديمقراطية الثالثة. لقد عكس موكب التشييع المهيب التقدير الكبير الذي يكنه شعبنا لهذا الزعيم التاريخي. لقد جاءوا بمئات الآلاف من مختلف الفئات والأديان والاتجاهات الفكرية، صوفيين اشتركوا معه في الزهد، وشيوعيين شاركوه معاركة، وقساوسة ودعوه بالترانيم، فالمجد لله في الأعالي وعلى الوطن السلام وبالناس المسرة، لقد امتلأت ميادين التشييع بالرايات الحمراء ورايات الأنصار والختمية ورايات الحركة الشعبية لتحرير السودان، لقد ازدحمت الآفاق برايات الطرق الصوفية والقبائل، وهكذا كان تنوع الرايات قبل أكثر من مئة عام عندما شيع السودانيون قائدهم التاريخي محمد أحمد المهدي، وما أشبه اليوم بالبارحة.. نعم ليس كل الذين رفعوا الرايات الحمر وشارات الحزب الشيوعي السوداني أعضاء في هذا الحزب، لكنهم اختاروا في يوم التقدير هذا أن يرفعوا رايات الزعيم الذي أحبهم وأحبوه، ورايات الحزب الذي ظل يقاتل من أجلهم لأكثر من نصف قرن. لقد كان رحيل نقد فرصة سانحة لشعبنا ليظهر تقديره لنضالات الحزب الشيوعي السوداني واحترامه له. إنه معدن هذا الشعب الأصيل والمستنير، لقد جاءوا بأديان شتى وسحنات شتى ليمشوا مع الزعيم في مشواره الأخير.. لقد رصدنا كيف أن أبناء جنوب السوان القديم الذين تجبرهم قوى الهوس على الرحيل، كانوا حاضرين في وداع الزعيم والمفكر الذي أسهم في تعميق رؤى حزبه العاقلة لحل مسألة الجنوب قبل أن تسبقه طيور الظلام إلى تمزيق الوطن. لقد جاءوا من مختلف الأعمار فامتلات مآقي الشيوعيين بالدموع بعضها حزناً على قائدهم وبعضها تأثراً لرؤيتهم كيف جاء شعبهم ليحتفى بزعيمهم في يومه الأخير كل هذا الاحتفاء. لقد جاءوا شعباً كاملاً حافياً وباكياً مهللاً ومكبراً وهاتفاً، حيث اختلطت رايات الختمية والأنصار ورايات الحركات الصوفية، مع أعلام الحركة الشعبية لتحرير السودان، برايات لا نعرفها مع رايات الحركة الشيوعية السودانية.. هتافات ودعاء وتراتيل الكتاب المقدس، ها هم السودانيون جميعاً جاءوا ليلقوا نظرة الوداع الأخيرة على قديسهم وهو مختفٍ وسطهم للمرة الأخيرة. وكان الزعيم الكبير يعلم أنهم سوف يأتون ليخفوه وسطهم عند اختفائه الأخير، ألم يقل كلما أعادته نضالات شعبنا إلى سطح الوطن «كنت مختفياً وسط شعبي»، ها هم قد خرجوا بمئات الآلوف لوداع أصلب معارضي الإنقاذ، وكان بعض قادة حزب المؤتمر الوطني السيئ الصيت يتهكمون على المعارضة السودانية بأنها غير قادرة مجتمعة على حشد بضعة آلاف من مؤيديها في الميادين. وها هم جاءوا بمئات الآلاف يستظلون برايات حزب وزعيم معارض.. جاءوا ليقولوا لدعاة دولة الحزب إن شعبنا بخير.. لقد قضى الزعيم عمره يدعو إلى توحيد القوى الوطنية والديمقراطية والأحزاب السياسية وقوى التغيير في جبهة واحدة باعتبار ذلك شرطاً أساسياً من شروط الانتصار في معركة استرداد الديمقراطية وبناء دولة الوطن. وها هو يجمعهم في رحلته الأخيرة رايات شتى وقبائل شتى، ليذكرهم قبل اختفائه الأخير بأن اتحادهم ممكن وأن قوتهم لا تقهر. هذا هو شعبنا هذا هو الحزب الشيوعي السوداني وداعاً نقد وداعاً أيها الحبيب * جامعة الدراسات الدولية - شنغهاي الصين