الإثنين الماضي احتفلت السنغال بمراسيم تسلم سلطة الانتقال الديمقراطي السلمي بين كل من الرئيس السابق عبد الله واد والرئيس المنتخب مكي سالي، بحضور أكثر من عشر رؤساء دول أفريقية، ووزير الخارجية الفرنسي ألان جوبيه. قال الرئيس الجديد في أول تصريح له بعد إعلان فوزه «إن حجم هذا الانتصار الذي يشبه الاستفتاء يعكس حجم انتظارات الشعب، وأنا واع بذلك تماماً، ومعاً سننكب على العمل». في هذا البلد الأفريقي الذي يقع ضمن منظومة بلدان العالم الثالث مثل الدول العربية تماماً، يتشكل انتقال ديمقراطي راشد، ليجسد لنا ربما، بعض الفروق التي تعكس مدى عراقة الاستبداد في المنطقة العربية. نلاحظ هنا أن الرئيس الجديد يتحدث عن العمل، أي عن أفعال واضحة ويكاد يعلمها الجميع، فهو لم يخطب خطبة عصماء، ولم يتشدق بشعارات جوفاء. ذلك أن البلاد التي تندفع نحو الديمقراطية، أو تقبع في التخلف الخام مثل حال البلدان الأفريقية جنوب الصحراء، تشترك في ملمحين أساسيين يمكننا أن نرصد عبرهما طبيعة الأزمات التي تشكل عائقاً للديمقراطية. ففي بلدان أفريقيا جنوب الصحراء ليس هناك ما يمكن أن نطلق عليه أيديولوجيا الأوهام التاريخية، مثل تلك التي أسبغها العرب حول أنفسهم. وهي أيديولوجيا تحجرت تماماً خلف استبداد عقيم ظل هو السطح السلطوي الوحيد المتخفي وراء قناع الشعارات. فالشعارات إذ شكل منها الصدى التاريخي للوجود العربي والجغرافيا الحضارية أوهاماً مضللة بلغت دعايتها مبلغا أدى إلى خلط مؤذٍ وتناقض مفضوح بين القول والممارسة، على ما ظل يردد النظام السوري طوال أربعين عاماً من طرح لشعارات كانت هي على الضد تماماً من ممارساته الفعلية. هكذا كانت الاشتراكية في نظام البعث السوري شعاراً ضخ المزيد من الفقر والبؤس والحرمان في قطاعات واسعة من الشعب السوري. لقد ظل ذلك الشعار الذي استمده البعث السوري من المنظومة الشيوعية مزايدة شعاراتية حديثة إلى جوار شعارات أخرى استمدت زخماً وهمياً من أعماق التاريخ العربي المجيد، أي تلك العروبة التي لا نكاد نجد لها وجوداً مستقلاً عن ظاهرة الإسلام التاريخي. وهكذا ظل سحر «العروبة» في نفوس العرب ظاهرة صوتية أصبحت لازمة طنانة تقترن دائماً بالحديث عن الممانعة والمقاومة وفلسطين. أما الواقع الصلب فقد كان منفصلاً عن أي تأويل للإسلام: القرين التاريخي للعروبة، من ناحية، فيما كان «قلب العروبة النابض» مكاناً مستلباً لسياسات واستراتيجيات نظام إيران الذي هو أعدى أعداء العروبة، من ناحية ثانية. والحال حين يصبح الاستبداد هو محتوى تلك الشعارات، عندها سنشعر بوطأة الأسطورة الكاذبة، التي تمرر من تحتها كل أنواع القهر والقمع والفساد. ولهذا فإن بلدان أفريقيا جنوب الصحراء في حاليها، سواء أكانت بلداناً تتلمس طريقها في سبيل الديمقراطية، كالسنغال وغانا، أو سواء أكانت بلدانا غارقة في الحروب الأهلية مثل الكنغو نجدها في الحالين تخلو من ذلك الإرث التاريخي الذي يتم توظيفه في جهاز أيديولوجي دعائي عتيد يقوم بتدوير أكاذيبه عبر ممارسات مناقضة لشعاراته. هذه بلدان تبدأ تجربتها، إما من الصفر تأثراً بلحظة عالمية معممة قابلة للفهم بدون أية تأويلات وسرديات تاريخية متوهمة، بحيث تتلمس تلك البلدان خطى الديمقراطية كما هي في معناها البسيط في التداول السلمي للسلطة لتجني ثمارها ولو بعد حين، أو بلدان ينتهي بها بؤسها الخام غير المؤسس على الأساطير إلى دمار كبير يكون بمثابة إجماع سلبي على البدء من جديد بعد بلوغ نهاياته عبر نزاعات تخلو من الأيديولوجيا تماماً كما حدث في ليبيريا التي استفاقت من دمار الحرب الأهلية بعد «14» عاماً وتلمست خطاها نحو السلم والديمقراطية على يد امرأة رائعة مثل «إيلين جونسون» التي كانت تعطي شعبها دروساً واضحة وبسيطة قابلة للفهم والتنفيذ في معنى الديمقراطية؛ فاستحقت بذلك جائزة نوبل للسلام. إنها بلدان إما أن تبدأ من الصفر أو تنتهي إلى الصفر، لكن في الحالين لا تبدأ ولا تنتهي تجربتها عبر أوهام تاريخية أو سرديات أيديولوجية تكون بمثابة القناع السميك لوجه للاستبداد القبيح والطويل، كما في البلدان العربية. ولعل من أبرز علامات التداخل بين طبيعة الواقع العربي المستند إلى أوهام شعبوية حول الذات والتاريخ، وبين والواقع الأفريقي البسيط، ما جرى في السودان حين انفصل جنوبه عن شماله، ففي الشمال مازال نظام الإنقاذ يضخ الأوهام حول حيازته للأيديولوجيا الإسلاموية التي قسمت السودان، ولازال إنتاج جنوب آخر في جنوب كردفان والنيل الأزرق، فيما أخذ جنوب السودان طريقه إلى بناء دولته رغم المناوشات التي يكيدها له السودان الشمالي. ومن جهة أخرى تتلمس ميانمار «بورما» في ركن بعيد من آسيا وهي أشبه حالاً ببلدان أفريقيا جنوب الصحراء، طريقها نحو الديمقراطية بعد أن يئس العسكر من اخضاع زعيمة المعارضة الصلبة، فخضعوا لحكم الديمقراطية عبر حسبة وطنية بسيطة رأت في أمن الوطن وسلامه قيمة مضافة على المكاسب الشخصية للسلطة. لقد أصبحت الديمقراطية بما تتضمنه من كرامة وحرية وعدالة من أهم بديهيات العالم الحديث، لكن ما يجعل تلك البديهية معضلة عسيرة على الفهم هو فقط ذلك الركام المتغلغل من الاستبداد في هذا الجزء من العالم المسمى عربياً. صحيح أن الربيع العربي هو خطوة جبارة في سبيل الخروج من زمن الاستبداد، لكن ذلك الإرث المدجج بالأوهام التاريخية المتخلفة سيشوش على الناس زمناً طويلاً.