حمل الرئيس الجزائري الراحل أحمد بن بلة سنواته التسع والتسعين المليئة كفاحاً وشجاعة واستقامة وعروبة وإسلاماً، ورحل بهدوء بعد أن ودع أعز رفاق السلاح في الثورة الجزائرية، وأحب رفاق النضال في الأمة العربية وداعاً للمجاهد بن بلة... لقد كان لأصيل مدينة مغنية - غرب مدينة وهران بالغرب الجزائري- دور فعال في استقلال الجزائر، فقد سجن مرات عديدة في معتقلات المحتل الفرنسي ليقاسي ما يقاسيه بقية الجزائريين، ولم يزده ذلك -كما هم - إلا اصراراً على اخراج الغاصب من أرض ظل جاثماً عليها 132 عاماً، ذاق خلالها الجزائريون ألواناً شتى من العذاب الجسدي والمعنوي، حتى صادر الفرنسيون حرية العبادة، والتعليم، والمواطنة الحسنة. عرف المناضل بن بلة رمزاً وطنياً وقومياً كونه أحد قادة ثورة الجزائر العظيمة ضد الاستعمار الفرنسي والذي قدم فيها شعب الجزائر العظيم أكثر من مليون ونصف المليون شهيد من أجل التحرير طوال سنوات حرب التحرير التي انخرط فيها هذا القائد الشاب الذي لم يختم بعد عمره الثلاثين عاماً مع أول شرارات الثورة التي بدأت في 8 مايو 1945 والتي بعدها انضم أحمد بن بلة الى حزب الشعب الجزائري، ومن أشهر العمليات الفدائية التي نفذها هي العملية المعروفة بعملية بريد وهران عام 1949 مع رفاقه حسين أيات أحمد ورابح بيطاط. في 15 سبتمبر 1963 انتخب بن بلة -رحمه الله- كأول رئيس للجمهورية الجزائرية ، ورغم الفترة القصيرة التي ظل فيها رئيساً، والتي استمرت حتى 19 يونيو 1965، حين تسلم الراحل هواري بو مدين رئاسة البلاد، عوضاً عنه، ورغم اعتقاله لسنوات إلا انه بقي وفياً لبلاده معتزاً بها يفاخر بها أينما ذهب وارتحل، مؤمناً بقضية تطور الديمقراطية فيها، وهذا ما دعاه الى تأسيس الحركة الديمقراطية بالجزائر، ومارس من خلالها العديد من الانشطة التي أبقته حاضراً في المشهد السياسي حتى غيبه الموت الأربعاء الماضي عن عمر ناهز 96 عاماً. إن الدرس الذي نتعلمه من الرئيس الراحل هو أن حب الوطن ليس مرهوناً بمناصب أو مسؤوليات أو مواقف موسمية أو ردات فعل، إنما هو إيمان يجب أن يرسخ فينا، تلهج به ألسنتنا وتنطق به أفئدتنا، لذلك ظل أحمد بن بلة، على مدى العقود الخالية، عاشقاً للجزائر، سواء كان في الحكم أو في الزنزانة أو في المعارضة، كان رمزاً للتسامح والمصالحة، إذ بمجرد إطلاق سراحه عام 1984 جسد تسامحه النبيل بإصراره على عدم الإساءة لمن أطاحوا به، بل كان حريصاً على التعبير عن تقديره للرئيس الراحل هواري بومدين. وعندما تولى عبد العزيز بوتفليقة مقاليد الحكم وتبنى سياسة الوئام والمصالحة الوطنية، كان الرئيس الراحل أحمد بن بلة مسانداً قوياً لهذا المسعى، حريصاً على ما يجمع الجزائريين، نابذاً للعنف، مدافعاً شرساً عن وحدة وطنه تراباً وشعباً. لقد خسرت الجزائر واحداً من أبنائها البررة، ولئن غيب الموت هذا الوطني الوفي جسداً، فإنما ذكراه باقية في القلوب ورصيده النضالي وإخلاصه الوطني ذخراً تقتدي بهما أجيال الجزائر، جيلاً بعد جيل، في الاستمساك بتلك القيم الخالدة التي من أجلها عاش ومات. وداعاً يا من سكنت قلوب الأحرار، يا من قاومت الاستعمار، يا من ترفعت على آلامك، يا من صنعت تاريخاً مشرقاً ومشرفاً ليس للجزائريين فحسب، ولكن للمغاربة والعرب والأفارقة، ومعهم كل من يقدس الحرية، ويكره الجبروت، فنم هنيئاً قرير العين.