صدر حديثاً كتاب كان محل انشغالي في سالف الايام، فقد اهداني الاستاذ محمد العاجب اسماعيل المحامي كتابه بعنوان «الفدرالية في السودان» من خلال دستوري 1998م و2005م ولاية جنوب دارفور نموذجاً تطبيقياً. ومؤلف الكتاب من قيادات جنوب دارفور الشابة النشطة في المجال العام، فقد شكل حضوراً منذ منتصف الثمانينيات، وكان نقيباً للمحامين بالولاية، وتعود معرفتي به إلى زمن بعيد، حيث عملنا معا انا في رئاسة الولاية بنيالا وهو في المحليات، وبهذه الصفة يكون هو صاحب خبرة علمية وعملية وله في التشريع باع كبير ومن التنفيذ نصيب مع قيادات المجلس التشريعي بالولاية، وكان معتمداً لعدد من المحليات من شعيرية الى كاس، فهو ممارس حقيقي وشاهد تجربة واهمية كتابه تأتي من هنا، وقد قام بالتقديم له الدكتور محمد احمد سالم وكفى، ولولا انني اجد نفسي في هذا الكتاب لما اقدمت على هذا التقريظ، فقد بدأت تجربتي الادارية الحقيقية مع بداية هذه التجربة وفي هذه الولاية بالتحديد كانت محافظة جنوب دارفور تتكون من مجالس مناطق هي نيالا، برام، الضعين، عد الغنم، رهيد البردي، زالنجي، نيرتتي ووادي صالح. وتدار هذه المناطق بواسطة مديرين اداريين من سلك الضباط الاداريين ذوي الخبرة الطويلة والشرائط الصفراء، يعاونهم اعضاء مجالس مختارون او منتخبون جزئياً، وبضربة لازب تحولت هذه المجالس الى محافظات على رأسها محافظون لهم بيارق ترفرف باشكال والوان مختلفة، وفجأة أصبح الناس ووجدوا مظاهر السلطة امام منازلهم، فسألوا هل هذه آخر ألاعيب الساسة أم ماذا؟ قيل لهم كلا إنه الظل الاداري في تمدده. لقد كانت الانقاذ في نسختها الاولى قوية، عزمت فتوكلت، وأقدمت على دخول تجربة الفدرالية بفهم واسع وايمان راسخ، ولو استمرت بنفس الدفع مع التقييم والتقويم لوصلنا اليوم الى نموذج يحتذى به، ولما تعالت اصوات الاطراف باكية من ظلم المركز الى ان تحولت الى اصوات سلاح هنا وهناك، وكثيرون من الذين يحملون السلاح اليوم في دافور كانوا يوماً قادة في الولايات والمحافظات والمحليات، ورؤساء لجان واعضاء مجالس يمارسون سلطات بالاصالة يتنافسون فيما بينهم من أجل تطوير ولاياتهم ومحافظاتهم ومحلياتهم. وشهدت كل هذا بأم عيني، وكانت جنوب دارفور مضرب المثل في الممارسة، فقد رمت الانقاذ دارفور بأصلب سهامها وأعوادها من أمثال المهندس الحاج عطا المنان ادريس والدكتور عبد الرحمن أحمد الخضر والدكتور عبد الحليم المتعافي وآخرين اثروا التجربة. ومن حظي أنا وحظ المؤلف اننا شهود حق، والمحامون يخشون شهود الزور. لقد كانت جنوب دارفور نموذجاً حقيقياً لممارسة فعلية للسلطة، فقد عاش الناس المشاركة وكل مزايا تقريب الظل الإداري، وكانت رغبة المركز حقيقية بالذهاب بالتجربة إلى نهايتها، ولكن يبدو أن غلاة المركزية وانصار الكيكة التي لا تقبل القسمة شمروا ووقفوا ألفاً أحمر، ولا إفراط في تنزيل السلطات الى الولايات لأن النتيجة حسب زعمهم تقسيم البلاد الى دويلات وذهاب السودان في خبر كان، ودون ذلك المهج. وبدأ الحديث عن فشل التجربة، وأن الممارسة اظهرت نتائج كارثية، وعادت حليمة الي قديمها، ولا بد من المراجعة التي في حقيقتها رجوع وانتكاس وليست المراجعة من أجل اصلاح مواطن الخلل والتقدم لبلوغ الغايات، ولم يسألوا انفسهم هل فشلت التجربة ام انها تعرضت لصعوبات سير في طريق مزدحم؟ وكانت نتيجة هذه الانتكاسة أن تمردت الاطراف واتخذت لها ذريعة مع ذرائع أخر، وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير وعدنا القهقرى. جاء كتاب الأستاذ محمد العاجب في وقت نحتاج فيه لحديث عن علاقة المركز مع الاطراف، ولا بد من ايجاد صيغة تراضٍ تجيب على اسئلة ملفات السلطة والثروة لطي صفحة الحروبات التي دامت طويلا. وجاء في ملخص الكتاب أن السؤال الذي ظل يواجه الحكام والقادة السودانيين هو كيف يحكم هذا البلد الشاسع الكبير؟ وبطبيعتي الادارية مولع جدا بكل ما يكتب عن الادارة وشؤون الحكم والفدرالية واللامركزية والادارة الاهلية والشؤون القبلية، فهذا الجهد الكبير الذي بذله الاستاذ محمد العاجب يجد مني الاهتمام الخاص، فالكتاب يشكل اضافة كبيرة وردماً معرفياً كبيراً لفراغ عريض في مجال مهم وضروري للخروج من مأزق الحكم في السودان، فقد جاء الكتاب مكملاً لكتاب آخر صدر بعنوان الفدرالية المالية للدكتور إبراهيم محمد سليمان، وهو خبير اقتصادي عمل وزيراً للمالية بولاية شمال دارفور، وبالمفوضية القومية للموارد، وصاحب تجربة عملية في الجانب المالي المتعلق بهياكل الحكم الفدرالي، وهو رفيق درب طويل وصاحب أفضال واسعة على الناس، ولن تكتمل الصورة إلا بقراءة كتابه مع كتاب الاستاذ محمد عاجب إسماعيل، فالاول من جنوب دارفور وخلفيته قانونية، والآخر من شمال دارفور وبخلفية اقتصادية. وكثيرون نظروا الى الفدرالية من زاوية أن تكلفتها المالية أعلى من مردودها، وأن الصرف على الهياكل جاء على حساب الصرف على الخدمات والتنمية، ونسوا أن الفدرالية الحقة هي مزيد من تحريك موارد باطن الأرض وظاهرها واستغلالها لصالح البشر من خلال الاستغلال الأمثل للمتاح واستنباط الجديد، ويتأتى ذلك بوضع الجميع أمام تحدياتهم وتحمل مسؤولياتهم، فليس صحيحا ان الفدرالية حبال بلا بقر وما اكثر البقر في هذه البلاد، ولماذا لا نملك الناس الابقار ونسلمهم الحبال لحيازتها حتى لا تتعدي على الزرع، وكل شئ تنظيم والفدرالية تنظيم للعلاقات على كل المستويات. وجاء في كتاب «لماذا تفشل الأمم» للكاتبين اسموغلو وجيمس روبنسون «إن الامم تزدهر عندما تقيم مؤسسات سياسية واقتصادية احتوائية، وتتراجع عندما تصبح هذه المؤسسات اقصائية تسمح بتركيز السلطة والفرص في ايدي قلة، فلا بد من المؤسسات السياسية والاقتصادية التي تحرر وتمكن وتحمي قدرات كل المواطنين من أجل الابتكار والاستثمار والتطور». وأعظم إنجازات الانقاذ هو النظام الفدرالي، ولو كانوا يعلمون فإنه يفوق في اهميته انجاز البترول نفسه، ويجب العض عليه بالنواجذ. وجاء في توصيات مؤتمر الحوار الوطني حول قضايا السلام، وهو الآخر بدوره يعتبر من انجازات الانقاذ الكبيرة، جاء في هذه التوصيات أن النظام الفدرالي يعني في المقام الاول حل مشكلة المشاركة في السلطة واقتسام الدخل القومي والتعبير عن التنوع الثقافي والهوية وعلاقة الدين بالدولة. وسعدت كثيرا باطلاعي على الكتابين عن الفدرالية، ولا غنى عنهما، فهما يستحقان مزيداً من القاء الضوء والتناول من خلال حلقات نقاشية يشارك فيها مختصون ومهتمون بهذا الشأن. وما التوفيق إلا من عند الله.