لعل التجربة التي عبر بها حزب الامة القومي السنوات الطوال منذ تأسيسه عام 1945م شهدت تطورا ملحوظا في تكويناته المؤسسية وطرق قيادتها وسبل تحقيق مبادئه وتطلعاته، ومن المؤكد ان الارث الانصاري الذي ورثته الغالبية من عضوية هذا الحزب كان له القدح المعلى في توريث صفوفه الكثير من الصفات التي اتصف بها ذلك العهد المهدي الذي امتاز بنظام قوي البنية، وعقيدة راسخة في القلوب والاذهان. لقد تطورت التجربة نحو ديمقراطية اصيلة خشي الكثيرون ان تزعزع البنيان الحزبي وتهدد الكيان الانصاري، وقد كان لقيادة الامام الصادق حتى قبل تقلده الإمامة نسيجها المتفرد في نشر التقاليد الديمقراطية المؤسسية داخل الحزب والكيان، وكان لإصراره ان تعمم هذه التجربة الحديثة علي صفوف الحزب والكيان مواجهة عقبات جمة خاصة في تطويع بعض اهل البيت في السير علي الطريقة المهدوية التي ابت الا ان تولي من آمن بمبادئها وجاهد في ساحاتها، ثم تطويع آخرين كانوا يظنون ان المركب الحزبي والانصاري يمكن الامساك بدفته معتقدين ان ركابها غير مؤهلين للاعتراض على الذين اعتادوا على سرقة جهد الآخرين بحلاوة اللسان او ببذخ الصرف .. لقد كان لانعقاد الهيئة المركزية الاخيرة لحزب الامة القومي تحول كبير في جذب مفاهيم الآخرين من المفكرين والكتاب والصحفيين حيث كانت بعض الاطروحات الموروثة عن مسيرة حزب الامة قد تجذرت في مفاهيم الكثيرين وامتلأت الاعمدة بهذا المفهوم القديم الذي فشل فيه الكثيرون في ان يستوعبوا اهم المتغيرات التي حدثت في تكوينات الحزب والكيان.. امتلأت مواعين الاعمدة تؤكد بأن الصادق المهدي يدير عجلة الحزب والكيان كيفما يشاء وركلوا كل الموروثات التي سجلها الحزب في مؤتمر السقاي الي ان جاءت الهيئة المركزية التي اكدت عدة حقائق وجب علي الذين فاتتهم ثمرات التغيير التي دأب عليها الحزب. 1 / ان الديمقراطية قد اصبحت هي الطريق الوحيد للوصول الى الاهداف المعلنة للحزب. 2 / ان التحضير المؤسسي للحزب هو الذي اخفى على الهيئة المركزية هيبتها وحضورها وجاهزيتها لوضع النقاط على الحروف. 3 / انه ليس هناك شخص يستطيع ان يثبت بأن الصادق المهدي كانت له اية يد في اي قرار او توصية للهيئة المركزية. 4 /ان الحزب بكافة عضويته في الهيئة وخارجها قد استوعبت وتفهمت بل هضمت العملية الديمقراطية وتبادل الرأي. 5 / ان الحملة المنظمة التي شنتها بعض الشخصيات وبعض الاقلام المنهزمة علي الحزب ورئيسه ما هي الا اقلام واشخاص فقدوا ما تمنوه من مواقع كانوا يعتبرونها مجهزة لهم. لقد اشفقت اكثر الاقلام والاعمدة التي اعتادت ان تتعايش على خلق الاخفاقات في الحزب بأن الحزب قد تشتتت عضويته وبارت قضيته وطفقت تقصف بمدادها في شخص رئيس الحزب حينما علمت ان الفرصة اصبحت غير متاحة للذين اعتادوا (العرضة) خارج حلبة الحزب، خاصة عندما شهدوا النقد الحاد والنقاش الجاد والحوار المحتدم الذي ظل ليوم كامل داخل صيوان الجلسة ورئيس الحزب على مقعده تشهد في وجهه الارتياح والهدوء وكأنه قد اطمأن بأن جماهير الحزب يمكن ان يتجادلوا ديمقراطيا ويتحاوروا حوارا حارا للاقناع والاقتناع دون ان يكون هناك من شق عصا الديمقراطية وراح يغرد خارج السرب.. لقد وقفت رئيسة المكتب السياسي وبصوتها الجهوري تعدد منجزات المكتب السياسي بالمؤشرات والعددية فهي محاضرة لوغاريثمية في الجامعات ما يربو على 102 اجتماع للمكتب وما يربو على 91 قرارا اصدره المكتب السياسي. دعك من المؤتمرات الصحفية هذا كله والاقلام (المشاترة) تكتب بأن رئيس الحزب لا يريد كذا ولا يريد كذا حتى وصلت الى المناداة بالتنحي.. اي تنحٍ هذا؟! لو جلس العقلاء او الحكماء او المشفقون على حال البلد وتخيلوا ان هذا الرجل الذي احكم حلقات اكتوبر وابريل وخاض مجاهل السجون والمعتقلات والتشريد وقاد اكبر حزب في بلادنا رابطا به بين الاصل والعصر لما اقتنعوا بما تماهت به بعض الاقلام. لقد بلغت اعداد الهيئة المركزية حين اول انعقادها 564 عضوا وعضوة جاءوا من كافة انحاء السودان وبدأت العضوية تتزايد حتى ساعات الحوار الساخن الذي خاضه الاعضاء حول خطاب الامين العام السابق، الذي ذوق خطابه بكتاب كامل وزعه علي الاعضاء .. واحتفل الصيوان بالعائدين وعلى رأسهم مولانا الدومة الذي كان منافسا شرسا للأمين السابق وقد ابلي في الحديث بلاءً كبيرا وظهر اهل التيار هنا وهناك والاكثر الطلاب الذين جاءوا بكلياتهم يهتفون كل هذا لم يهز شعرة او خوف في ان ينفرط عقد حزب الامة بل كان التماسك قويا خاصة في صفوف الصلاة والامير عبدالمحمود امين عام هيئة شؤون الانصار يخطب خطبة الجمعة ويصلي بالجميع. لقد سمحت د. مريم ورئيس لجنة الاعلام لكافة وكالات الانباء بالوصول الى داخل الصيوان المحجور الحضور اليه فوثقت الوكالات وجوه رجال ونساء حزب الامة متآخين متاحبين فكانت لقطات حية لكافة الحضور. وللعجب لا زال البعض يظن ان الهجوم الجارح والطعن سيصنع تغييراآخر.. لقد جرت العملية الانتخابية في هدوء حتى ظهرت النتيجة فكان الاختتام تاجا على النتائج لقد وقف الامين السابق الفريق صديق محمد اسماعيل مخاطبا جماهير الهيئة فكان درسا بليغا في الحوار الديمقراطي الاصيل. لقد شاهدت اغلب الصفوف الاولى مشدودة الى حديثه وهو يؤكد انه ليس الا جندي من جنود حزب الامة وانه يمد يده الى الامين الجديد مؤكدا انه «تحت الطلب» لقد وصفه رئيس الحزب بالشجاعة والجرأة اما الامين الجديد د. ابراهيم الامين فقد وقف معاهدا ومقسما بأنه لن يكون الا منسقا لهذا الحزب، ووقف مع الامين السابق لتلتقط لهما الصور هكذا كان حزب الامة.. قال فيه رئيسه ان ابوابه مفتوحة ولكن ليس لأحد ان يتسمى باسمه وهو خارج صفوفه.. هل لي ان انقل حديث د. مريم وهي تعتذر عن قبول ترشيحها؟ وقفت مخاطبة للجميع بأنها وفي هذه اللحظة النادرة تشعر بالعزة والفخار وهي تطالع إخوانها واخواتها وجوه اهل حزب الامة والانصار، ولا تستطيع ان تعبر عن مشاعرها نحوهم، واقسمت انها تحبهم وتجلهم وتقدرهم. لقد كانت كلمات مؤثرات.. لقد كانت هناك شخصيات تبادلت رئاسة الجلسات وعلى رأسها رئيس الهيئة المركزية الاستاذ علي قيلوب المحامي الذي استلف من سيدنا ايوب الصبر والأناة، وتعاقب على الجلسة بروفيسور الشيخ محجوب وبروفيسور عبدالعزيز عبدالرحيم والسلطان د. علي حسن تاج الدين .. اما رؤساء الحزب في الولايات فقد اوجزوا بما لديهم في ولاياتهم.. هذه مشاهدات شاهد عيان.. شرف ختام التوصيات كل من د. نافع علي نافع ود. الحبر نور الدائم والاستاذ الشفيع خضر ووجوه من الاحزاب الاخرى، وكان ذلك حفلا ختاميا لانعقاد احدى مؤسسات حزب الامة التي كللت بالهدوء والحوار والنهج الديمقراطي الاصيل.