دعوات الإصلاح والتغيير هي دعوات لطالما وجدت في نفوس الناس وفي المجتمعات في الحقب التأريخية المختلفة صدى طيباً وقبولاً وأنصارا، فالناس بفطرتهم يميلون إلى التغيير. وهذا الجنوح الفطري هو الذي يُعطي الإنسان مشروعية التميز والأفضلية. الثورة المهدية في السودان كانت دعوة للتحرر والإنعتاق مثلما كانت دعوة للإصلاح والتجديد والإستنارة وفق القاعدة الذهبية "لكل وقتٍ ومقام حال ولكل أوانٍ وزمانٍ رجال". وما كان الإمام المهدي عليه السلام ليجد كل ذلك التأييد وتلك الحماسة المدهشة لو لم تكن دعوته في أساسها دعوة للإصلاح والتغيير وكسراً للقيود التي أقعدت بواقع أهل السودان آنذاك وكرّست لجبروت وعنجهية المستعمر وقتها وأدخلت على الواقع الإجتماعي صوراً دخيلة وبعيدة عن الفهم الإسلامي الصحيح. والتأريخ يحدثنا كيف أن إختلاف الإمام المهدي "عليه السلام" مع شيخه في باديء الأمر وقبل إنطلاق الدعوة كان إختلافاً حول الأفكار والفهم وطرائق الدعوة، ولم يكن بأية حال جحوداً أو نكراناً لفضلٍ أو جميل. سقطت الدولة وبقيت رايات الإصلاح والتجديد مرفوعة على ذات الهدى القائم على إستصحاب المتغيرات والتعامل مع الواقع على أساس يبقي على ثوابت الدين والوطني ولا يسجن ما دون ذلك في قفص من حديد. فكان البعث الجديد والإنطلاقة الثانية على يد الإمام الراحل عبد الرحمن المهدي والذي إستطاع وفي عبقرية فريدة لم يوفها التأريخ السوداني الحديث حقها بعد، أن يقود المسيرة ويحقق غايتها ويحقن دماء أبنائها وينفتح بها على شرائح المجتمع السوداني المختلفة ساسة ومثقفين وتجار وفنانين في صورة متفردة إختزلت السودان في لوحة جميلة شعارها "السودان للسودانيين" وهو شعار إنتصرت له إرادة أهل السودان وإن لم ينل حزب الأمة أغلبية برلمانية في أول إنتخابات جرت بعد إستقلالنا الثاني. وتلك لم تكن خاتمة المطاف ومنتهى المسيرة، بل كانت أحد معالمها الرئيسة ليتواصل الركب على ذات المنوال وإن إختلفت الدروب للوصول إلى الغايات المتجددة والأمنيات الدفينة التي عبرت عنها الثورة المهدية منذ إنطلاقتها وانكب عليها كل الذين توالوا على سدة وقيادة هذا الكيان العظيم. فكان إستشهاد الإمام الهادي المهدي تجسيداً لمعاني وقيم الثورة ضد الظلم وإستلاب الإرادة وبعث جديد لأشواق الشهادة في سبيل الدين والوطن. وكم كان سهلاً ومتوافراً للرجل القائد حينها أن يختار لنفسه السلامة والدعوة للإستسلام والتسليم تأتيه من كل صوب وركن من أركان الإنقلابيين ولكنه أرادها جهادا في سبيل كرامة أهل السودان مثلما كان شأن سلفه الإمام الصديق رحمه الله والذي وقف وقفة مشهودة رافضاً للإنقلاب الأول وتسليم السلطة للجيش منافحاً لكل ما تم في غيابه من خطوات في هذا الشأن كانت غير موفقة. وبحسب شهادة إبنه الإمام الصادق المهدي فإنّ الإمام الصديق كان مات بسكتة قلبية متأثراً بما أصاب الوطن من نكسة كبيرة تمثلت في إنقلاب الفريق عبود على الديمقراطية أو إن شئت فقل تسليم السلطة للجيش. الإمام الصادق المهدي وتكملة المسيرة: يستطيع كل باحث ومنقب في تأريخ كيان الأنصار وحزب الأمة أن يدرك الدور الريادي الكبير الذي لعبه الإمام الصادق والنقلات الفكرية والثقافية الرائعة التي أحدثتها إجتهاداته المنفتحة على الموروث الإنساني وشتى ضروب المعرفة. وقد كانت المدرسة الفكرية المتفردة والمتميزة التي أرساها هي الأقدر في مقارعة كل أشكال التنطع والتجارب الإسلامية الفطيرة التي قادت لكوارث على المستوى الوطني والإسلامي ومساهمات الصادق المهدي الفكرية لا تقف عند النقلات النوعية الكبيرة التي أحدثتها داخل الكيان ولكن تتعداه إلى الفضاء الإسلامي والفكري العريض. بدأ الإمام الصادق المهدي مشروعه للإصلاح والتغيير بالإصلاح المؤسسي في حزب الأمة وحينها كان مناصراً لأن تكون الغلبة والفصل في الشأن الحزبي للمؤسسة الحزبية المنتخبة وليست الإمام، كما كان مناصراً لفكرة الفصل بين سلطات الإمام والحزب كمؤسسة سياسية مستقلة. تداعى كثيرون ممن هفت قلوبهم ومالت عقولهم نحو الإصلاح المؤسسي وألتفوا حول الشاب الذي لم يبلغ وقتها الثلاثون حولاً بعد. وتمضي المسيرة ويتكالب الأعداء وتتناسل الإبتلاءات وتتجدد دعوات ودعاوي الإصلاح والتغيير وتلك سنة الله في خلقه فلا مناص من ذلك (وكان الإنسان أكثر شيء جدلا). إذن فكرة الإصلاح والتغيير عند حزب الأمة وكيان الأنصار هي فكرة أصيلة ومحورية كما تقول بذلك مجمل المرجعيات والوثائق الفكرية التي رفدت الحياة السياسية السودانية بمساهمات كبيرة. وكل دعوة للتغيير والإصلاح تجد لها أنصاراً ومتحمسين داخل الحزب، والأمر هنا في تقديرنا ينم عن فاعلية وحيوية وديناميكية أكثر منها مجرد (تكشير أنياب) لأن العمل السياسي في كثير منه يقوم على الإجتهاد والتنظير .. والقاعدة تقول أن المجتهد مأجور ومُثاب إذا خلصت نواياه. قد يقول قائل أن الإجتهاد في حالة المؤسسة الحزبية وداخل الأطر التنظيمية يجب أن يستوفي إستحقاقات الإلتزام الدستوري واللائحي للمؤسسة المعنية ولا يتجاوزها. وقد ينبري آخر ليتحدث عن معادلة وفاقية يمكن من خلالها تجاوز التناقض الذي قد ينشأ بين الإلتزام المؤسسي ووحدة الحزب السياسي. الخلافات داخل حزب الأمة القومي: الخلافات والإنقسامات داخل الكيانات السياسية السودانية هي ظاهرة مرصودة ومعلومة لكل مراقب وليست حالة خاصة بحزب الأمة وحده، ولكن تبقى درجة تأثيرها المتفاوت وما يمكن أن تسببه من ظلال سالبة على الأداء العام مختلفة من كيان سياسي لآخر. شهد حزب الأمة القومي في العام 2002م إنسلاخ مجموعة مقدرة من صفوفه شملت قيادات من الصف الأول وقيادات وكوادر وسيطة وأقاموا مؤتمراً إستثنائياً كونوا على غراره (حزب الأمة الإصلاح والتجديد) برئاسة السيد مبارك الفاضل وشاركوا في السلطة بمناصب وحقائب وزارية قبل أن يتشظى الحزب الوليد لعدة أحزاب إنخرطت جميعها وتحالفت مع سلطة الإنقاذ. كان لخروج مجموعة مبارك الفاضل (الإصلاح والتجديد) من السلطة والعودة لخندق المعارضة من جديد والإنتخابات الأخيرة دور في تقريب الشقة مع حزب الأمة القومي بجانب ما بُذل من جهد لتحقيق الوحدة. تراجعت للأسف الشديد لاحقاً فرص الوصول إلى غاية الوحدة وتبادل الطرفان إلقاء اللوم وتحميل المسؤولية. ويمكن قراءة المواقف والحجج في البيانات السياسية واللقاءات الصحفية لقيادة الحزبين حتى لاندخل في تفاصيل مطولة. وخلاصة الموقف هو الفشل المعلن في الوصول لتسوية. وشاءت أجواء تفاؤلية وإحتفائية كبيرة في أوساط الحزبين والكيان قبيل الإنتخابات الأخيرة وأنّ الوحدة قد أصبحت أمراً واقعاً وما تبقى هي مسائل إجرائية وفنية يتعلق أغلبها بقانون الأحزاب والتسجيل والإنتخابات، ولكن سرعان ما ذهبت (سكرة الإنتخابات) وبرزت الخلافات من جديد. وهي محصلة لا يرى العقلاء أنها تصب في مصلحة الحزب وأنّ الأطراف المسؤولة تتحمل مسؤولية تأريخية ووطنية كبيرة بإزاء ما يحدث في ظل المهددات الخطيرة التي تواجه الوطن. فإصلاح الذات وإصلاح ذات البين داخل الذات الواحدة هو المدخل الموضوعي والبديهي لمواجهة الصعاب ولكل تطلع للتغيير، (لايُغيّر الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم). ليس صحيحاً أنّ العمل من أجل تحقيق وحدة الحزب مهما إستغرقنا وكلفنا من رهق هو إنشغال عن قضايا كبرى لأنّ القضايا الكبرى تحتاج بالمقابل لأحزاب قوية وفاعلة تمتلك القدرة أولاً على حلحلة قضاياها الداخلية ولملمة صفوفها قبل أن تدعو الآخرين إلى كلمة سواء وإجماع وطني تراه ويراه كل عاقل ضروري في هذه المرحلة الدقيقة من عمر السودان. وقيادة حزب الأمة وأطروحاته السياسية وكل مبادراته ما إنفكت تدعو للإجماع ووحدة الصف الوطني بإعتبارها المخرج الوحيد لأزمات الوطن المتلاحقة فما بالنا نخرج على الملأ لننعي في مؤتمر صحفي فشلنا في أن نتفق ونحرض أهل السودان وأحزابه على الإتفاق على كلمة سواء سبحان الله. إنّ الشفافية في توضيح الحقائق مطلوبة ما من شك في ذلك ولكن الحكمة تقتضي القول بأن الجهود ستستمر بدلاً من إعتبارها قضايا إنصرافية وصغائر أمور!! الإخوة في مجموعة (الإصلاح والتجديد) خاضوا تجربة يجب أن يعترفوا بأخطائها حتى لا نقول خطاياها ويمارسوا قدراً من نقد الذات نراه ضرورياً وأخلاقياً وأن يدركوا أنّ مسؤولية إنجاز وحدة الحزب في هذه المرحلة هي ليست مطلباً جماهيرياً فحسب ولكنها ضرورة وطنية قصوى نحسبكم جميعاً مُدركين لها. أمّا التفاوض على التسوية التنظيمية على تلك الشاكلة التي نقرأها فيما رشح من وثائق وبيانات أشبه بتفاوض لتشكيل حكومة إئتلافية منه بتفاوض يُمكن أن يفضي إلى وحدة حزبين هما في الأصل حزب واحد. مجموعة التيار العام: الخلاف الثاني الذي نحن بصدده هُنا هو خلاف تتصدره مجموعة التيار العام، وهو خلاف يطال صميم المؤسسات الحزبية القائمة والتي تمخضت عن المؤتمر السابع (الأخير). يرى هؤلاء أنّ ما تمّ من معالجات في الهيئة المركزية أدّت لتجاوز العدد المنصوص عليه دستورياً غير دستورية وتنطوي على شبهة تدخل في إنتخابات الهيئة المركزية لمنصب الأمين العام على وجه الخصوص، وبالتالي فقد رتب هؤلاء موقفهم على الآتي: -عدم الإعتراف بالأمانة العامة. -عدم الإعتراف بالمكتب السياسي. -الإعتراف برئيس الحزب بإعتبار إنتخابه من المؤتمر العام. وبعيداً عن إضطراب المواقف هنا وهناك إزاء ما تمّ في المؤتمر العام الأخير نسوق الحقائق الموضوعية التالية: 1. 1/ الزيادة التي تمت للهيئة المركزية تجاوزت نص الدستور. 2. 2/ الزيادة معالجة إقتضتها ضرورة فنية إستدراكية ربما أدى عدمها إلى إشعال حريق إحتجاجي آخر. 3. الموقف كشف عن خلل (تنظيمي) وسُجلِّت سابقة في التعامل مع الدستور كان يمكن تلافيها وتبقى الكلمة فيه للمؤتمر القادم. 4. التنافس المحموم الذي صاحب إنتخابات الأمانة العامة جعل من الزيادة (المبررة فنياً) "شبهة تدخل في النتائج". 5. الزيادة تمت بموافقة ومباركة كثيرين من المجموعة التي تقود (التيار العام) الآن مما يصور المسألة وكأنها مجرد (خرخرة سياسية) أكثر منها دفاع عن دستور الحزب. 6. صدر عن المجموعة بيان صحفي منشور يؤكد ما رشح من أخبار عن دخول بعضهم في تفاوض مع المؤتمر الوطني لا بل شارك أفراد منهم بالفعل في سلطة المؤتمر الوطني مثالاً لذلك الأخ الربيع بحر الدين علي دينار مستشاراً لحكومة ولاية شمال دار فور (إقرأ حواره مع صحيفة الحقيقة) بتاريخ 7. تأخر قيادة حزب الأمة وعلى وجه التحديد رئيس الحزب وتواجده خارج الوطن في أعقاب الأزمة فوّت فرص لحلول مبكرة كانت تبدو ممكنة. مراجعات ضرورية: ركّز كثير من المحتجين على والرافضين لمخرجات المؤتمر العام السابع وصبوا جام غضبهم على شخص الأمين العام المنتخب إنطلاقاً من خلفيته (المهنية) تارة ومن حداثة عهده بالحزب تارة أخرى، ولم يشفع للرجل خروجه من بيت أنصاري وإنتمائه لقبيلة عُرِفت بولائها التأريخي للحزب أو خبراته الإدارية والطويلة والتي ربما أقنعت من أدلوا بأصواتهم لصالحه أنّ الحزب في حاجة لها. وحتى لا نُتّهم (بموالاة الرجل) نذهب مباشرة إلى خلاصة القراءة المنطقية التي أفرزتها نتائج إنتخابات الهيئة المركزية وهي أننا وحتى لو إستبعدنا فرضية فوز الفريق صديق محمد إسماعيل بدون (الزيادات في الهيئة المركزية) لن نستطع إلاّ أن نؤكد من واقع الأرقام أنه كان منافساً قوياً يفوز فإنّ الفارق كان سيكون ضئيلا. ولعلّ هذه الفرضيات هي ما حدت برئيس الحزب إلى تقديم مقترح في تصوري لم يكن عملياً وكان سيشكل سابقة في العمل السياسي، وللتذكير فإنّ المقترح كان يتطلب أن يؤدي من تمت إضافتهم للهيئة المركزية القسم ليقول كل واحد منهم ( لمن أدلى بصوته)! قراءة تشخيصية: التحولات العميقة التي شهدها السودان بإمتداد سنوات الإنقاذ العجاف كانت لها ظلال وإفرازات كثيفة على مجمل الواقع الإقتصادي والإجتماعي، وبالتالي تأثر الأداء السياسي والعمل العام عموماً بالإفرازات المركبة للأزمة السودانية الناتجة عن الإرتدادات التي أحدثها بقاء الإنقاذ بمختلف نسخها في سدة الحكم. أصبحت الجهوية والإثنية والمناطقية مفردات قوية الحضور في المشهد السياسي العام وداخل أحزابنا السياسية بدرجة من التضخم عالية والبيئة السياسية عموماً أُصيبت بقدر كبير من التلوث. وقد عمل حزب المؤتمر الوطني وبوسائل عدة لم يدخر فيها وسعا بكل ما لديه من سعة مالية وقدرات تآمرية على الإصطياد المنظم وخلق الفتن وكم كانت وما زالت الفرصة مؤاتية له لفعل المزيد في ظل ما نعيشه من حالة تردي طالت كل شيء. جميعنا يريد لهذا الحزب أن يسترد عافيته لأنّ عافيته من عافية الوطن، وكلنا يتطلع لممارسة حزبية وتنظيمية راشدة تنتشل هذا الوطن من وهدته وترفع عن كاهل أهلنا ثقل المعاناة، ولكن يبقى السؤال المركزي عن توافر الإرادة الحقيقية لتحقيق وحدة الحزب. ويبقى التساؤل الكبير عن الدور المنتظر من قيادة حزب الأمة القومي والمتمثلة في رئيسه الإمام الصادق المهدي وهو دور في تقديرنا يجب أن يتجاوز لغة ( البرّه برّه والجُوّه جُوّه) لأننا إن كُنّا نتحدث عن معالجة كانت ضرورية لتجاوز نص دستوري في دفاعنا عما تم في المؤتمر العام السابع يجب أن نُدرك أيضاً أن غاية الوحدة ينبغي أن تُوضع في معادلة تُوفِّق بينها والإلتزام المؤسسي. ولنأخذ مثالاً على ذلك وهو ما عبّر عنه رئيس الحزب فيما يخص قرار المحكمة الجنائية بالقبض على الرئيس عمر البشير وخلاصته أننا مع إعترافنا بالمحكمة وتأييدنا لها نرى أنّ إعتقال الرئيس سيخلق من عدم الإستقرار يجب تلافيها في معادلة توفق بين تحقيق العدالة والإستقرار. نحن نرى إمكانية لتحقيق وحدة الحزب بنظرة توفيقية يبادر بها رئيس الحزب أو تطرح للتداول داخل الحزب وعلى المستوى القاعدي. نختم فنقول إنّ بناء حزب قوي وفاعل ومتماسك ومتصالح مع نفسه وقواعده هو ما ينتظره أهل السودان في محنته.