دائما ما تتجاوز الأمم خلافاتها الصغيرة وجراحاتها القديمة،ويتسامى القادة الكبار فوق الضغائن وتصفية الحسابات عندما تواجه الأوطان الخطوب والمحن،ونحن الآن في حاجة الى موقف وطني يعلي مصلحة البلاد العليا على أي اعتبار آخر،من أجل بلورة مشروع وطني يحظى بإجماع مقدر لتحقيق هدف أسمى، بقاء ما تبقى من الوطن موحدا يستوعب التنوع وينعم أهله بالأمن والاستقرار والسلام.. هجليج استطاعت توحيد الارادة الوطنية خلف القوات المسلحة وهي تخوض معركة الكرامة المقدسة نحو تحرير الأرض المغتصبة وكفكفة أطماع الأعداء في بلادنا،تقاتل من قوس واحد وظهرها مرتكز على شعب استفزته ممارسة دولة جارة عمرها عشر أشهر لم تبلغ الفطام بعد،ينبغي أن تلتفت الى بناء نفسها لا تصدير متاعبها والهروب الى الامام من مشاكلها. هجليج عائدة الى حضن الوطن، ولكن ينبغي أن نستثمر سياسيا الهوة التي تجسرت بين القوى السياسية نحو غايات سامية،وعدم الارتهان الى المناورات والمواقف التكتيكية لتحقيق مكاسب صغيرة لا تصمد كثيرا أمام التحديات الكبيرة التي يواجهها الوطن، وهذا لا يتحقق بالأماني والنوايا الطيبة وانما عبر حوار وطني مسؤول يضع القضايا الوطنية على طاولة مستديرة ومناقشتها بشفافية لاقرار مشروع جديد عوضا عن المشروع الوطني الذي تركه آباء الاستقلال وانهار بانفصال الجنوب،وهي خطوة ينبغي أن تكون عقب انفصال الجنوب. لقد تفاءلت خيرا عندما استمعت إلى مستشار رئيس الجمهورية الدكتور ابراهيم أحمد عمر قبل يومين يدعو الى اهتبال الفرصة التي خلقها الالتفاف الوطني بشأن هجليج الى منصة انطلاق لتوحيد الجبهة الداخلية،ووافقته قيادات معارضة لكنها دعت الى تهيئة البيئة المناسبة والتعامل بندية واحترام،وان اعتبرت ان هجليج واحدة من تجليات ومظاهر الازمة السودانية. موقف عمر ورموز المعارضة يستند على قاسم مشترك يحتاج الى تطوير وهو أمر ممكن بل وراجح في حال توفرت الرغبة،وغابت المناورات والمواقف التكتيكية وحسابات الربح والخسائر السياسية. ولكني هالني الأمر واستهوتني أحزان عندما طالعت تصريحات مسؤولين آخرين وضعوا أنفسهم في مرتبة فوق الجميع مندفعين الى تصنيف القيادات السياسية والحزبية الى فسطاطين وطني وخائن،يستسهلون توزيع بطاقات الوطنية وبيعها كما يوزع بائعو الرصيف بضاعتهم،وهذه خطوة غير موفقة ،تباعد ولا تجمع بينما البلاد في ظرف دقيق يحتاج الى خطاب سياسي عقلاني يهيىء لوقفة مع الذات ومراجعة وطنية شاملة تؤسس لمرحلة جديدة. بعض قيادات الحزب الحاكم التي تتبنى مواقف لا تساعد على جمع الصف الوطني يبدو دافعها اعتقاد بأن التعاطف الدولي والالتفاف الداخلي لاستعادة هجليج السليبة يصب في صالح حزبها، وبالتالي فهو ليس في حاجة اجراء حوار وطني أو الدخول في مراجعات يمكن أن تدفعه الى تقديم تنازلات،وينسى هؤلاء أن هذا التعاطف مرتبط بمرحلة محددة،وليس صكا قابلا للصرف في أي وقت،انها فترة قصيرة لو ترجمت خلالها المواقف الجياشة الى خطوات عملية فيمكن حصد نتائجها ثمارا لصالح الوطن وليس "الوطني". أما زعماء المعارضة الذين لا نشكك في انتمائهم ووطنيتهم تقع عليهم مسؤولية لا تقل عن الحكومة وحزبها،فالوطن في وضع يتطلب تجميد الخلافات السياسية وتجاوز المرارات،وابداء روح تقود الى مربع جديد يؤمن وحدة البلاد أرضا وشعبا،ويرسخ الأمن والاستقرار والسلام، ويكفل الحريات ويحقق للشعب عيشا كريما،وفي ما عدا ذلك فليتنافس المتنافسون.