« لما يعد امام البلدين خيار غير العودة الى الحوار»، هذا ملخص حديث المبعوث الامريكي للسودان ليمان امام النواب الامريكيين امس الاول ، وليمان يستند في ذلك على نتائج جولته الاخيرة في الشمال والجنوب والتي كشفت ، حسبما قال ، ان كلا من الخرطوموجوبا « يبحث عن مخرج من حالة عنق الزجاجة التي انحشرت فيها العلاقات بين البلدين»، بعد معارك هجليج. لكن ما ذهب اليه المبعوث الامريكي لا يتطابق مع ما يصدر ايضا من الخرطوموجوبا هذه الايام، فرئيس دولة الجنوب العائد من بكين شن ،امس الاول، هجوما معتادا على الخرطوم متهما المجتمع الدولي،بين هتافات مواطنيه، بالتضامن معها، وحكومة الخرطوم لازالت تدير معاركها على جبهات متعددة مع جوبا، وقانون «رد العدوان» المثير للجدل هنا احد هذه الجبهات، فيما تتوجه اغلب التصريحات الحكومية باتجاه رفض اتخاذ الحوار كآلية لحل الخلافات مع جوبا الا باشتراطات مسبقة،فعلى ماذا استند السيد ليمان في تأكيده للنواب الامريكيين على ان الحوار سيستأنف فى بحر الاسبوع القادم؟. وهل حصلت الولاياتالمتحدة ،دون عن غيرها، على تعهدات اكيدة من الطرفين بذلك؟، ليست الاجابة على ذلك بسهولة طرح الاسئلة، فالخارجية السودانية تنفي ما قاله المبعوث الامريكي، لكن وكيلها يقول ل» الصحافة» ان السودان على استعداد للدخول في تفاوض الان، بغير تأخير، غير انه يعود متسائلا : الحوار سيدور حول ماذا؟، ويتابع رحمة الله عثمان: الحكومة اعلنت انها لن تحاور الا حول القضايا الامنية، واوصلت رسالتها هذه للاتحاد الافريقي والآلية المشتركة واتفقت معهم على ذلك. ويجدد وكيل وزارة الخارجية « لن نجلس مع الجنوب الا بعد انجاز الاتفاق على الترتيبات الامنية». وبذات اللغة الحازمة يمضي رحمة الله عثمان ليشير ان جوبا نقضت كل ما اتفق عليه معها في السابق، فالحدود تم الاتفاق عليها مع جوبا، لكنها عادت ونقضتها بدخولها هجليج، ويردف « ثم كيف نقبل ان نحاورها وهي لا زالت تردد ان هجليج جنوبية»!. ويرى وكيل وزارة الخارجية ان الاجواء لن تصبح مهيأة لحوار مثمر ما لما يتم حسم ملفات، الحدود وجنوب كردفان وجنوب النيل الازرق، قاطعا بان الخرطوم لن تذهب لحوار مع الجنوب « الا بعد حسم كل هذه الملفات تماما». وما تفضل به من توضيح ،وكيل الخارجية السودانية، لا يتقاطع مع تصريحات المبعوث الامريكي،لان ليمان لم يوضح الارضية التي ستنطلق من خلالها مفاوضات البلدين،لكنه شدد على استعداد كل من الخرطوموجوبا،من موقع الضغط،على خوض معمعة التفاوض بلا تأخير. لكن ما طبيعة الدور الامريكي في هذه المرحلة وما الآليات التي قد يتخذها في ظل تمترس كل من الخرطوموجوبا حول موقفيهما، فشروط الخرطوم للحوار تقابلها شروط جنوبية لا تقل صعوبة، وتعنت البلدين قد يستعصى على الاتحاد الافريقي والآلية المشتركة. تحضر هنا كلمات جنايدى فرايزر مساعد وزير الخارجية الاميركية للشؤون الافريقية السابق، في حوارها مع السي ان ان، فالسيدة من موقعها الاكاديمي الحالي تقول ان على الولاياتالمتحدة ان تعمل لدعم وساطة الاتحاد الافريقي من اجل حل الخلافات بين الخرطوموجوبا، لكنها لا ترى في امريكا نفسها وسيطا مناسبا بين البلدين، فهي تقول ان موقع امريكا يجب ان يكون الى جوار الجنوب باعتباره اولا حليفا لها، وثانيا لان السودان الشمالي كان هو المعتدي دائما، مشيرة الى ان المجتمع الدولي اخطأ عندما وضع كلا الطرفين تحت طائلة المسؤولية، وعندما أدان عالميا جنوب السودان على دخولها هجليج، فيما ترى فريزر ان هذا الخلاف هو في الواقع على الحدود وعلى النفط، وعلى العديد من القضايا التي لم يتم وضع اللمسات الأخيرة لها قبل الانفصال. واتهمت المسؤولة الامريكية السابقة الشمال بانه ظل يواصل الاعتداء على الجنوب لمدة شهور قبل الصراع في هجليج، وان الإدانة الثقيلة من المجتمع الدولي للجنوب على دخوله هجليج «مبالغة»، وتابعت : في واقع الأمر، هذه الادانة هي التي خلقت غطاء لعدوان شمالي آخر نشهده في الوقت الراهن في ولاية الوحدة. وتعبر تصريحات فرايزر عن رؤية تيار قوي داخل الادارة الامريكية، لحقيقة ما يحدث بين الدولتين وماهية المطلوب اتخاذه من قبل واشنطون تجاه التطورات بين البلدين. وربما كان ادراك الحكومة السودانية لهذا الواقع هو ما دفعها لعدم التعويل على الدور الامريكي في حل الصراع، والاستماتة في ابعاد الايادى الاخرى عن الملفات العالقة بينها والجنوب. وبالامس جددت الحكومة ثقتها في الاتحاد الأفريقي وأجهزته وعلى رأسها مجلس السلم والأمن الافريقي على صعيد حل خلافاتها مع دولة جنوب السودان. وقالت وزارة الخارجية في بيان لها بالامس « إن أي عمل لاجهاض هذا الدور او القفز عليه يرفضه السودان وأنه لا يمكن أن يعين في إرساء دعائم السلم والأمن في السودان». وقال وزير الخارجية علي كرتي انه يتابع باهتمام مشروع القرار الأمريكي الذي يجري تداوله في مجلس الأمن الدولي بشأن الأوضاع بين السودان ودولة جنوب السودان ، مؤكدا ثقة السودان في الاتحاد الإفريقي وأجهزته وعلى رأسها مجلس السلم والأمن الإفريقي وفي الآليات التي ارتضى الاتحاد ومجلس السلم والأمن العمل من خلالها، وعلى رأسها الآلية الإفريقية رفيعة المستوى برئاسة الرئيس ثامبو أمبيكي. وثمن كرتي دور الآلية الإفريقية رفيعة المستوى ، برئاسة الرئيس ثامبو أمبيكي ، في إيجاد حلول للقضايا محل الخلاف بين الدولتين ، وعلى رأسها القضايا الأمنية ، واكد تمسك السودان بهذا الدور وبأن التفاوض حول القضايا الأمنية والعسكرية يجب أن يعطى الاولوية المطلقة للبحث والاتفاق قبل الشروع في التفاوض حول القضايا الأخرى، كما اكد رفض الحكومة للمحاولات الجارية لطمس دور الاتحاد الإفريقي وإحالة الوضع بين جمهورية السودان وجنوب السودان لمجلس الأمن. وينظر المراقبون الى هذا الدور من زاوية اخرى ، فامريكا كما يشير الدكتور سامي عبد العاطي شاركت في مختلف مراحل العملية السلمية بين الشمال والجنوب، وساعدت مع الاوربيين في تهيئة الاجواء لانجاز اتفاقية السلام الشامل، لكن ذلك لا يعفيها من مسئولية عدم متابعة تنفيذ الاتفاقية بالشكل الصحيح، بخاصة البنود التي بقيت لتصبح قضايا عالقة بين دولتين لهما تاريخ مشترك في الحرب. ولا يبرئ المحلل السياسي،في حديثه ل» الصحافة»، الدور الامريكي في الدولتين من تهمة الانغماس في الاجندة الخاصة، مضيفا « من الطبيعي ان تكون لها مصالح مع الجنوب، لكنها لا يمكن ان تغفل ان مصالحها هناك مرتبطة بالاستقرار بين البلدين»، ويحمل الدكتور سامي عبد العاطي المبعوث الامريكي ليمان مسئولية ارسال اشارات خاطئة للاطراف ذي الصلة بالقضية، فليمان كما يشير ارسل ما يوحي بادانة بلاده لنهج « الجبهة الثورية» التي تحمل السلاح، واكد عدم رغبتها في استهداف النظام الحاكم في الخرطوم، لكنه في ذات الوقت ترك الاوضاع تشتعل دون تدخل ودون فرض خيار الحوار على من حمل السلاح، وعاد الان ليؤكد على اهمية الحوار وفق الالية الافريقية دون الاشارة الى ان بلاده تستهدف تحويل الملف الى مجلس الامن. ومن ناحية اخرى فان منهج الطرفين، شمالا وجنوبا، في التعامل مع القضايا العالقة بينهما ، لم يترك فرصة للتكهن بما يمكن ان يحدث خلال الايام القادمة، هذا ما توافق عليه اغلب المراقبين لما يدور بين الشمال والجنوب منذ انفصال الاخير العام الماضي، فالقضايا الخلافية كما يشير الدكتور صلاح الدومة لا يمكن ان تنفصل، على سبيل المثال، عن طبيعة العلاقة بين البلدين،والعلاقات بينهما بنفسها تتأرجح كما يقول المحلل.. فتارة تتقدم الى الامام خطوة لتعود خطوتين، وتارة يصعب فك شفرتها. ويرجع المحلل السياسي هذا الامر، في حديثه ل» الصحافة»، لعدم امتلاك الطرفين منهجا واضحا لادارة العلاقة بين الشمال والجنوب بعد الانفصال، ولسيادة «تراث نيفاشا» الذي يسم علاقة المؤتمر الوطني والحركة الشعبية الجنوبية،بكل ما في ذلك التراث من عدم ثقة ومحمولات عدائية ورغبة في الثأر.ولا يرى الدكتور الدومة ان مسارات التفاوض رغم اهميتها وضرورتها الان، يمكن ان تنزع الفتيل وتعيد الامور الى نصابها بين الجارين، ان لم يتم بداية اعادة تصويب سياسات كلا من الخرطوموجوبا وفق منظور استراتيجي، وتقييد حركة التيارات المتشددة على الجانبين، والنظر بعين الاعتبار الى الخسائر الفادحة التي يدفع ثمنها الشعبان،على كافة الاصعدة،بسبب الحرب المتواصلة.