الذين يقبعون في الماضي السلفي سوف يغامرون بحقهم في الحياة في المستقبل . الإرصاد الجوية ليست علوماً فقط ولا هي رجم بالغيب كما أنها ليست تنجيماً خبط عشواء . كل حلقات التقدم الإنساني كانت بداياتها من الإرصاد . الزمن البيولوجي هو الذي يقود جميع أنشطة الحياة . لم نعرف حضارة بشرية قامت على تجاهل العلوم الإرصادية . ما هي قيمة الحياة بدون فهم للحرارة والرطوبة ، الساعة من يوم الخلق إلى القيامة ، الماء الذي جعل منه كل شئ حي ، الأمطار والصواعق والرعد ، الزمهرير ولفحات الشمس الحارقة ، الضوء والرياح اللواقح والوان النبات والبشرة واخيراً مواقيت كل نواميس الحياة التي نحياها ، شمس تشرق وتغيب ونبات ينبت وأنعام تتوالد وصلاة لا تحسب غير الزمن واحداثه . في 23 من مارس في كل عام تحتفل الأمم باليوم العالمي للإرصاد الجوية . هذا التاريخ يوافق اليوم الذي تم فيه توقيع إتفاقية إنشاء المنظمة العالمية للإرصاد الجوية قبل 75 عاماً . إحتفلت هيئة الإرصاد الجوية في السودان بهذا اليوم بتاريخ 16 / 4 / 2012 . هذا الحفل الإرصادي الجميل هو الذي أثار الشجون في حدث ذي شجون . الذين ينظرون بعيون المستقبل والذين امتلأوا بثقافة الحوكمة الراشدة أنشأوا أول محطة للرصد عام 1890 بمدينة سواكن ووصلت المحطات إلى ست عشرة في عام 1920 ويوم إستقلال السودان المتجه للمستقبل إنضم السودان للمنظمة العالمية للإرصاد الجوية . وبما أن كاتب هذا المقال ليس عالماً من علماء الإرصاد ولا يدعي معرفة بفنونه وآلامه وأفراحه ولا يعرف شيئاً من علم الفلك والأنواء والفيزياء والقليل من علوم الحياة فإن المقال سيتجه إلى الجانب الثقافي لشعب نريد له أن يبحث عن مستقبله في الإرصاد وغير الإرصاد ايضاً . نظرة إلى اليمين ونظرة إلى الشمال ثم نظرة الى الارض ونظرات إلى أعلى في السودان توحي بقوة إلى أن ثقافة الإرصاد لا تزال في طور التكوين الجيني ولا تزال تبحث عن من يؤمن بها ومن يحنو عليها ويقوم بتربيتها وسط أوحال ثقافية ممعنة في الماضي الميت والمميت . دلائل هذا الوضع المحزن كثيرة نتخير منها ما متفق عليه ونخفي منها ما يثير الغبار في إنتظار عدد أكبر يؤمنون بالمستقبل : مستقبل الحياة ومستقبل العقائد . * منذ إنشاء أول محطة رصد مضى من الزمن الإرصادي مائة واثنان وعشرون عاماً . هل ما تم إنجازه حتى اللحظة يساوي أية نسبة من هذا الزمن ؟ * مقررات التربية والتعليم في مراحل الأساس تكاد تخلو من أي منهج جاد لعلم الإرصاد وفوائده التخطيطية الفاصلة بين الموعود والمأمول وبين الأحلام والواقع . * إعتمد الإرصاد طول تاريخه على خبراء لا يشك أحد في مقدرتهم ولم نجد مؤسسات جامعية تأخذ علم الإرصاد مأخذ الجد . محاولات متواضعة في جامعة بحري ( جوبا) واخرى اكثر تواضعاً في الجامعة الاسلامية . * نشر الوعي والمعرفة بالإرصاد التخطيطي والاقتصادي بل والامني بمستوياته لم يكن شأناً من شأن أولي الأمر . شكراً لنشطاء التغير المناخي الذين نفضوا الغبار الماضوي عن علم المستقبل . * مدرسة التدريب والتأهيل الإرصادي ذهبت أدراج الرياح الإرصادية وهي التي كانت تعد الكوادر الوسيطة والقاعدية وخريجوها كانوا حلقة الوصل بين المجتمعات القاعدية والقيادات الادارية والسياسية . * الأندية الرياضية والثقافية والاجتماعية والسياسية لم تحفل بالإرصاد وآثاره في مجالاتها ناهيك عن مجالات النهضة الكبرى . * الوسائط الإعلامية المتعددة تنام كما نامت نواطير مصر عن الفكر والفعل المؤدي إلى تسخير الإرصاد وعلومه لصالح التنمية الروحية والثقافية والفنية . ربما نشكر بعض الإذاعات ومحطات التلفزة على تلبية رغبة الراصدين وتقديم النشرات الجوية المكتوب عليها أن تكون آخر ما يقال ! ليس المقصود ، ولا ينبغي ، أن يكون الهدف نكء الجراح أو فتح براميل القمامة المتعفنة ، حاشا . ولكن الهدف والامل أن نفرح بالإرصاد ومجالاته المتعددة وأن نُسخر نعمة الله الإرصادية لتصحيح المسار (وربما تغييره) حتى يتوفر مجتمع يؤمن بالمستقبل ، مستقبل الانسان الخليفة ، صاحب الرسالة والمكلف واجباً وليس اختياراً على إعمار الأرض بإعمار الإنسان أولاً . سنة الله في سائر خلقه وفي عباده دائماً وأبداً تجعل لنا نوراً في آخر النفق ، نفق المستقبل . هذا النور نراه يزداد يوماً بعد يوم . نراه في إنتشار وسائل صنع المعرفة وإفشائها ثم نراه في مؤسسات تولد معنية بأجيال المستقبل ونراه الآن في إشراقة وجه الدكتور عبد الله خيار الدائمة وفي إخلاص الدكتور نور الدين أحمد عبد الله وفي جدية الأستاذ حسن هلال ليس بصفته ولكن بقناعاته ونذكر هؤلاء غير ناسين لمن حملوا راية الإرصاد حين كان مجهولاً مغبوناً ومجقوراً ، فالتحية لكل مؤمن بالله وبإرصاده ولكل قادر على التمام دون عجز ولكل من رمى بحجر في بركة الماضي ، الساكنة والآسنة .