أنشأ الانجليز أثناء استعمارهم لبلادنا فكرة أن يكون الإعلام شأناً حكومياً بل وشأناً من شؤون أمن الدولة. فلا غرو إذاً أن يرتبط الإعلام فى دولة السودان الحديثة بعد سقوط المهدية بقلم المخابرات. وحتى الاذاعة السودانية ذراع الإعلام الوحيد فى ذلك الوقت ما قامت فى عام 1940م إلاّ لتكبح التعاطف الشعبي العارم المتعاظم نحو دول المحور والنظر إليها وإلى هتلر على أنهم المنقذ للشعب السوداني من الاستعمار البريطاني. وبعد الاستقلال استمرت فكرة أن يكون الإعلام شأناً من شؤون السيادة إلى يومنا هذا. وقد ظلّ الإعلام في شكله الحكومي هو الذى يوجه اتجاهات الشعب ويعدلها، بل ويعيد تشكيلها أحياناً على ما يوافق هوى الحاكمين. لكن مع النهضة التنويرية التعليمية التثقيفية الواسعة أصبح من الصعب إن لم يكن من المستحيل أن يظل حال الإعلام كما وصفنا، إذ قد تعددت وسائل التقاط المعلومات، وأصبحت أصابع الشعب السودانى تطيش بعيداً عن مؤشر الإذاعة الحكومية والقناة التلفزيونية الحكومية، بعد أن أصبح امام متلقي الرسالة الاعلامية عشرات الخيارات الأجود والاكثر حياداً. ومع قنوات الجزيرة والعربية والحرة وال «بي. بي. سي» وال «سى. إن. إن» من يرضى أن يحبس نفسه فى نشرة أخبار «عرقوبها مثل شهر الصوم فى الطول» كما قال الشاعر اللاهي. نشرة أخبار لا تهتم بالأخبار بل تهتم بالبروتكول الحكومى، إذ لا بد أن يذكروا فيها الرئيس أولاً ثم نائبه ثم مستشاروه ثم الوزراء ثم المديرون ثم ... ثم ... ثم ... حتى ولو لم يكن هنالك خبر جذاب، ولا يكتفون فى النشرةِ بايراد الخبر بل بتفاصيله وبالخطب الواردة فيه بنصها، وبالزيارات للأرياف فى تفاصيل تفاصيلها حتى يجف ريق المُستْمع للخبر ويفقد كل صبر ويحوقل ويشتم. كم مرة رأيتم ملكة بريطانيا فى نشرة أخبارهم؟ كم مرة رأيتم أوباما فى ال «سي. إن إن»؟ كم مرة رأيتم ساركوزى فى الفرنسية؟ إعلامنا متخلف يخاطب شعباً ذكياً، ولهذا هرب الأخير من الأول ولن يعود إليه أبداً. فإذا أبى الناس أن يستمعوا إلى الإعلام الحكومي سقطت تلقائياً فكرة أن تتحكم الحكومة فى الإعلام لتوجه به التفكير الشعبى، فالشعب لا يستمع إلى إعلام الحكومة حتى يتوجه من خلاله. فالكبار هربوا بجلدهم إلى الإعلام الاخبارى العالمى الأرقى، والصغار هربوا إلى قنوات الأفلام والمصارعة والرياضة والمسلسلات والانترنت، والشعب غير مهتم بمن يكون فى وزارة الإعلام مسار أم سناء أم جادين.. ليسود فى وزارة الإعلام الحكومية من يسود فهذا شأن يخص الحكومة حتى تثوب إلى رشدها وتلغى هذه الوزارة التى فقدت مسوغ وجودها، وتدخر ما تصرفه عليها لشؤون أخرى كثيرة ملحة.. أقول ذلك وأنا أعلم أن الإعلام الحكومى قد خبط خبطة حظ موفقة فى أحداث هجليج الاخيرة لن تغفر له زلاته الكثيرة وضعفه وقلة جاذبيته. وأراني أشارك صديقى محجوب فضل بدري وأستاذي ابراهيم الشوش، في اقتراح إلغاء وزارة الإعلام.. فما رأي الصحافيين والإعلاميين وأصحاب القرار؟!