ساهم الجزء الأول من هذا المقال فى إثراء النقاش الدائر حول زراعة القطن المعدل وراثياً بجنوب كردفان، وكانت الدعوة للمساهمة بالرأي من دكتور إدريس موسى مدير محطة بحوث كادقلى الزراعية الذى تعنيه زراعة القطن فى منطقة البرام، وقد ساهم بمقال نشر فى صحيفة «التيار». كذلك وصلنى رأي المجلس الزراعى السودانى الذى يمكن تلخيصه فى الآتي: ناقش المجلس الزراعي السوداني هذا الموضوع عبر لجنة مكونة من عدد من المتخصصين. وكان مأخذها على الطريقة المستعجلة التي تم بها ادخال القطن المعدل وراثياً وليس على مبدأ زراعته، على أن يكون ذلك بعد تكوين الأجهزة المنصوص عليها في قانون السلامة الحيوية، مثل تسمية الوزير المختص. وهذه الأجهزة لم تكوَّن بعد برغم صدور قانون السلامة الحيوية منذ 2010م، وكان الأجدر الاستعجال في تكوين هذه الأجهزة بدل الاستعجال في إدخال القطن المعدل وراثياً. وهذا المقال يهدف إلى إبراز دورالزراعة الحيوية والتقنية في المساهمة فى توفير الأمن الغذائى فى أفريقيا عموماً والسودان خصوصاً. وفى أكتوبر من العام المنصرم تعدى تعداد سكان العالم سبعة بلايين نسمة ويتوقع أن يصل الى تسعة بلايين بحلول عام 2050م، كما يتوقع زيادة السكان فى أفريقيا من واحد بليون «15% من سكان العالم» ليصل الى أكثر من ثلاثة بلايين «35% من سكان العالم» بحلول عام2100م، نسبةً للارتفاع فى معدلات الخصوبة والزيادة فى عدد أفراد الأسرة. والآن يجابه أفريقيا أكبر التحديات في توفير الأمن الغذائي وتطبيق أهداف التنمية الألفية بخفض الفقر بنسبة 50% بحلول عام 2015م، ويزداد هذا التحدى فى دول الساحل والصحراء التي تعاني موجات جفاف مستمرة، وعلى وجه الخصوص فى القرن الأفريقى فى دول الصومال، جيبوتى إثيوبيا، كينيا والسودان. ويعاني السودان نقصاً دائماً فى الأمن الغذائى، ويزداد تعقيداً مع موجات الجفاف المتلاحقة والحروب المستمرة، إذ يعتمد حوالى 25% من السكان على منظمات الإغاثة الانسانية فى قوتهم اليومى. وقد ذكرنا فى مقال سابق أن نصيب الفرد السودانى فى العام من اللحوم واللبن والسعرات الحرارية أقل بكثير من معدل منظمة الصحة العالمية للدول النامية، ومن معدل استهلاك الفرد فى الدول التى تستورد اللحوم السودانية. لقد ظهر جلياً من تجربة القطن المعدل وراثياً أن الاستقطاب السياسى الحاد قد دخل بكل قوة وعنفوان الى دورالبحث وانتاج المعرفة، وأبعد بعض المختصين عن الحياد العلمى ودحض الحجة بالبرهان وتبادل الخبرات مع البلاد التى أصدرت قوانين السلامة الاحيائية مثل كينيا التى اشتهرت فى أفريقيا بالريادة فى البحوث الزراعية والحيوانية. وأصدرت كينيا قانون السلامة الإحيائية فى عام 2009م بعد إرسال مجموعة من المختصين فى زيارات دراسية الى الفلبين لمعرفة المزيد عن إطار السلامة الإحيائية فى البلاد. إذ شمل القانون الاطارالسياسى والقانونى والآلية الادارية للسلامة الاحيائية، وتكوين اللجان الوطنية، وتشكيل هيئة ادارية تضم وزارة الزراعة وثمانى وكالات لتنظيم العمل. وقد شارك الجمهور وأصحاب المصلحة من المزارعين فى صياغة السياسات والمبادئ التوجيهية واللوائح التنظيمية، كما قامت وزارة الزراعة بحملات توعية واسعة هدفت إلى زيادة الوعي بالتقنية والسلامة الاحيائية. وتعتبر الذرة من أهم المحاصيل الغذائية فى شرق ووسط أفريقيا، اذ يبلغ انتاج الهكتار طناً وربع الطن، ويتوقع أن يرتفع بعد زراعة الذرة المعدلة وراثياً الى سبعة أطنان للهكتار. ولكن أهم العوامل المؤثرة على انتاج الذرة هو الجفاف، الاعشاب الضارة والآفات مثل طفيل البودا «سترايقا»، وهذا أوجب السعي الجاد لإنتاج محاصيل معدلة بجينات تضيف للذرة خاصيات تحمُّل الجفاف، ومبيدات الأعشاب، ومقاومة الآفات. وفى هذا السياق تبنت رابطة تعزيز البحوث الزراعية فى شرق ووسط أفريقيا هذه المبادرة، وأوفدت طلاباً من الدول الأعضاء للدراسة فى جامعة كينياتا لايجاد الحلول العلمية للأسئلة أعلاه. وتضم الرابطة دول بورندى، جمهورية الكنغو، إريتريا، إثيوبيا، كينيا، مدغشقر، رواندا، السودان، تنزانيا، يوغندا وجنوب السودان. وقد تمكنت الباحثة السودانية رشا آدم «هيئة البحوث الزراعية» بجامعة كينياتا من إنتاج أول محصول ذرة صفراء معدل وراثياً لتحمُّل الجفاف. كما تعمل الباحثة السودانية رشا علي فى نفس الجامعة لإنتاج ذرة مقاومة لطفيل البودا «سترايقا». إن زراعة المحاصيل التى تتحمل مبيدات الأعشاب سوف تتيح لصغار المزارعين الزراعة بدون حرث، وذلك برش المحاصيل لقتل الاعشاب الضارة فقط. وسوف تكون لهذه التقنية آثار إيجابية فى توفير وقت المزارع لأعمال أخرى، وتقليل انبعاث ثانى أكسيد الكربون المخزون فى التربة. إذ تنفق المرأة فى قرى غرب السودان أكثر من «200» ساعة فى ازالة الأعشاب الضارة عن فدان واحد، ويتواصل هذا الجهد دون توقف بسبب المرض أو الحاجة للسفر للعلاج فى المدن الكبيرة. ومازالت الجهود مستمرة فى الجامعات ومراكز البحث العلمي للاستفادة من التقنيات الحديثة والمحاصيل المعدلة وراثيا التى تعتبر خياراً مهماً لتلبية الاحتاجات المستقبلية فى أفريقيا والسودان. وذكرنا فى الجزء الأول من هذا المقال أن زراعة المحاصيل المعدلة وراثياً تعتمد على ثلاثة عوامل رئيسة، أهمها استصدار قوانين ملائمة وموثوق بها وفعالة من حيث التكلفة والوقت، مع توفير الدعم الإرشادي والمالي لصغار المزارعين. وتبقى الأسئلة التي تبحث عن اجابة: هل يستطيع السودان فى ظل الاستقطاب السياسى والعلمى السائد الآن، القدرة على ادارة التغيير وتكوين أجهزة وهيئات من المختصين المحايدين لتفعيل قانون السلامة الاحيائية؟ هل يوجد نضوج علمى وسياسى للاستفادة من التجارب فى كينيا، جنوب أفريقيا، بوركينا فاسو ومصر؟ ومن سيكون المستفيد الأول من المحاصيل المعدلة وراثياً، الشركات المحلية والعالمية، أم المزارع الصغير الذى يتطلع مع بداية هذا القرن إلى تخفيف وطأة الفقر والجوع ومضاعفة إنتاج الأغذية والأعلاف والألياف؟ ٭ باحث في كلية الملكة ميري للطب جامعة لندن وسكرتير مؤسسة كردفان للتنمية. www.kordofan.co.uk