قضى عزالدين الطاهر باشري ثلاثين سنة من عمره عاملا في القطاع العام بولاية الجزيرة وعندما احيل الى المعاش قبل ثلاث سنوات توقع كما هو مألوف ان يتقاضى حقوقه كاملة لتعينه على مواجهة حياته الجديدة ،ولكن احلامه ذهبت ادراج الرياح مثل غيره من عشرات آلاف العاملين الذين دفعوا ثمن عدم ايفاء حكومات ولاياتهم باستحقاقات صندوقي القومي للمعاشات والتأمين الاجتماعي ،ولم يختلف مصير مئات الشركات الخاصة التي نفذت مشروعات تنمية عن العاملين بداعي عدم الوفاء بمديونياتها من قبل حكومات الولاية. ديون مليارية وواقع الحال بكل ولايات البلاد يكشف عن توقف مشروعات التنمية ويوضح العجز الحكومي عن تقديم الخدمات المتكاملة للمواطنين ،ويبين عدم استلام مئات الآلاف من المعاشيين لحقوقهم ،علاوة على تعرض اعداد كبيرة من شركات الانشاءات للافلاس ،بالاضافة الى عدم مقدرة حكومات الولايات على تطبيق المنشورات الاتحادية الخاصة بمخصصات العاملين بالدولة ،وهذا الواقع جعل معظم حكام الولايات يجأرون بالشكوى من توقف دولاب العمل بداعي عدم وجود موارد مالية كافية يواجهون بها الالتزامات المختلفة ،لتحاصر الديون حكومات الولايات من مختلف الاتجاهات حتي وصل الحال في ولاية الجزيرة الى حجز كافة ممتلكات وزارة المالية بسبب ديون ،وقبل الخوض في مسببات تراكم المديونيات على حكومات الولايات نوضح على سبيل الذكر وليس الحصر مديونيات عدد من الولايات وفي مقدمتها ولاية الجزيرة التي بلغت آخر مديونية تم الاعلان عنها 722 مليار(بالقديم) 722 مليون (بالجديد) ..ولاية البحر الاحمر مديونيتها تبلغ 700 مليون منها 94 مليون مديونية صندوق المعاشات..فيما وصلت لدى ولاية جنوب دارفور 300 مليون وهي متراكمة منذ الوالي الحاج عطا المنان وكانت من اسباب خلافات الوالي السابق عبد الحميد موسى كاشا مع وزارة المالية الاتحادية وعلى طريقه مضى الوالي الحالي الذي بدأ في الشكوى منها..ولاية كسلا بلغت مديونيتها 77 مليون 40% منشورات اتحادية علاوة على ديون مشروعات التنمية وصندوق المعاشات (وثمانية مليون حقوق دستوريين)؟؟،بالاضافة الى فروقات الهيكل الوظيفي ..اما ولاية القضارف فقد تجاوزت مديونيتها المائتي مليون جنيه منها 38 مليون حقوق صندوق المعاشات و14 استحقاقات عاملين و100 مليون ديون تنمية..والحال في نهر النيل يبدو افضل رغم الازمات العاصفة التي مرت بها الولاية ابرزها قضية المناصير التي تسببت الديون في عدم تسويتها منذ سنوات ،وتبلغ مديونية الولاية مايقارب المائة واثنين وعشرين مليون منها مائة مليون عبارة عن مستحقات عاملين ومتأخرات صناديق المعاشات..سنار هي اقل الولايات مديونية حيث لم تتجاوز العشرة مليون وهي عبارة عن مستحقات صندوق المعاشات وهي الولاية الوحيدة التي ليس عليها التزامات تجاه الشركات المنفذة لمشروعات التنمية ..الولاية الشمالية التي ورث واليها فتحي خليل ديوناً كادت تتسبب في ابتعاده بعد ان تردد انه لوح باستقالته اكثر من مرة بسببها حيث تراجعت من 27 مليون الى 17،أما ديون ولاية النيل الازرق فقد تم تقديرها ب100 مليون..ولم تجد حكومة ولاية شمال كردفان حلا لأزمة الديوان الثقيلة التي ورثتها غير بيع الاراضي لتنخفض مديونيتها على اثر ذلك الى 100 مليون. دائنون ويعتبر صندوق المعاشات أكبر الجهات الدائنة لحكومات الولايات وتتجاوز مديونيته المليار جنيه (بالجديد) وهناك صندوق التأمينات الاجتماعية وشركات الانشاءات ،بالاضافة الى العاملين بالخدمة العامة ،وهناك العديد من الجهات الدائنة منها فنادق وكافتريات ومعارض سيارات وورش سيارات ومحال اثاثات ،بل حتى مكتبات صحف وبقالات ،هذا الواقع ألقى بظلاله السالبة على المواطن بصورة مباشرة بحسب مراقبين الذين يشيرون الى ان متأخرات صندوق المعاشات يقع ضررها على شريحة المعاشيين واسرهم ،ومتأخرات المنشورات والهيكل الوظيفي يتحمل آثارها العامل البسيط،ومتأخرات الشركات وغيرها من جهات ايضا تطال المواطن ،معتبرين قطاع التجار من الشرائح المتأثرة ايضا،وفوق كل ذلك يعتبرون ان المواطن يدفع ثمن هذه المديونيات بصورة اخرى تتمثل في توقف التنمية وتردي الخدمات. ضعف موارد وتواضع دعم مركزي ولكن ماهي اسباب تراكم هذه المديونيات ،هل هو سوء تدبير من حكومات الولايات ام ضعف موارد ،ومن يتحمل المسؤولية المركز ام حكومات الولايات؟،يجيب وزير المالية الاسبق بولاية القضارف والخبير الاقتصادي معتصم هارون عن بعض التساؤلات السابقة محاولا توضيح الصورة كاملة عن هذه المديونيات ويقول ل(الصحافة) :الديون اثقلت كاهل حكومات الولايات ،هذه حقيقة لاجدال حولها وهي بالتأكيد نتجت عن اسباب كثيرة على رأسها ان قرارات انشاء الولايات لم يأتِ مستوفيا ومراعيا للشرط الاقتصادي ،ومعظم الولايات بلا موارد وانشأت نتيجة لاغراض سياسية ،واعتقد ان السبب الثاني يتمثل في عدم وجود مواعين ايرادية تكفي لمواجهة المنصرفات المتعددة ،علاوة على ذلك الدولة تصدر منشورات تتعلق بمخصصات العاملين دون ان تعين الولايات لمواجهتها وهذا يمثل ضغطاً آخر على خزانة اي ولاية،،وفي تقديري ان التحويلات الاتحادية الشهرية لاتكفي حتى للايفاء بالفصل الاول،واعتبر هارون ان صندوق المعاشات اكبر الجهات الدائنة لحكومات الولايات محملا اياه المسؤولية ،مشيرا الى ان عمل الصندوق يشوبه القصور بداعي عدم خصمه لمستحقاته من المركز اسوة بالصندوق القومي لدعم الطلاب ،واعتماده على الحكومات فتح لها الباب وتحت وطأة ضعف الموارد للتصرف في حقوق المعاشيين،معتبرا ان تأخير مستحقات العاملين والمعاشيين قصور كبير يدفع ثمنه المواطن البسيط الذي لايتحصل على حقوقه الا بعد مرور اعوام تكون خلالها قد فقدت قيمتها ،وعبر هارون عن بالغ تعجبه من اجازة المجالس الشريعية للميزانيات دون التعرض للديون التي يجب ان تحظى بأولوية لسدادها وذلك حتى لايضار اصحابها ،محملا نقابات العاملين جزء من مسؤولية تأخر اسحقاقات العاملين ووسمها بعدم القيام بدورها في هذا الصدد ،وعن ديون التنمية اعتبر ان التعاقد لمدى طويل للسداد هو السائد وذلك لأن الشركات ليس امامها غير هذا المسلك ،كاشفا عن توقف الكثير من الشركات عن العمل بسبب تراكم ديونها على حكومات الولايات التي قال انها عجزت عن الايفاء بها ،وحول الكيفية التي عمل بها لمعالجة الديون عندما كان وزيرا للمالية قال انهم فضلوا اتباع سياسة الجلوس مع الدائنين لجدولة ديونهم ،وقال:ان تعطي صاحب الدين جنيها شهريا خير من تجاهله تماما،وتأسف على تجاهل الكثير من حكومات الولايات سداد الديون او الجلوس مع اصحابها (وتعبيرهم بكلمة طيبة) . ويستبعد وزير مالية القضارف الاسبق قدرة الولايات على استنباط مواعين ايرادية تكفل توفير الاموال المطلوبة لمجابهة الالتزامات وقال:لاتوجد موارد غير فرض الرسوم والاعتماد على الدعم المركزي الذي لايفي سوى جزء يسير من المنصرفات ،وفي تقديري ان التعويل على الاستثمار مجرد احلام واماني وذلك لأن الولايات تفتقر للبنية التحتية الجاذبة للاستثمار ،نعم هي تملك الموارد الطبيعية ولكن اين العوامل المساعدة من خدمات طرق وكهرباء ومياه ومطارات غير موجودة وحكومات الولايات في ظل الظروف التي تمر بها لاتملك القدرة على توفيرها ،هذا بخلاف العوامل الاخرى مثل عدم ثبات سعر الصرف والاستقرار الامني والاجراءات ،وبصفة عامة ستظل الولايات تعاني من الديون التي تنعكس على تردي الخدمات وبالتالي الهجرة من الريف الى المدن. زيادة مطلوبة من جانبه وفي حديث ل(الصحافة) يرجع والي ولاية سنار احمد عباس مديونية ولايته الى سببين ،ويشير الى ان ضعف ايرادات هيئة المياه ألقى بأعباء اضافية على خزانة الولاية التي ظلت توجه اموالا مقدرة لتغطية تكلفة التشغيل ومرتبات العاملين ،مبينا ان السبب الثاني يتمثل في عدم قيام وزارة المالية الاتحادية بتحويل الدعم الجاري كاملا ،مشيرا الى انه يأتي ناقصا 20% مما يتسبب ذلك في حدوث عجز ومديونيات ويقول:بخلاف العجز الناتج من نقصان التحويلات الجارية هناك عجز ثابت لايقل عن 20% وهذا يسهم في تراكم المديونيات ،وقال ان الصناديق تعتبر السبب المباشر في ارتفاع المديونيات ،مؤكدا على عدم تنفيذ حكومته مشروعات تنموية اذا لم يتوفر المال اللازم وذلك حتى لاتدخل في مديونية تعجز عن سدادها. جأر بالشكوى ولكن هناك من يتهم حكومات الولايات بتحمل المسؤولية ويرى انها لاتتبع سياسة ترتيب الاولويات وانها تقدم الصرف السياسي على الخدمي ،بخلاف ذلك يعتبرونها بعيدة عن ترشيد المال العام ،وانها تضع ميزانيات خيالية دون موارد وذلك للكسب السياسي ،الا ان وزير المالية بولاية نهر النيل مدثر عبد الغني يفند الاتهامات مشيرا في تصريح ل(الصحافة) الى ان وضع الميزانيات لايتم خبط عشواء ،مؤكدا انه يتماشى مع رؤية المركز ويضيف:لانضعها دون اعتبارات وحسابات ونمضي على هدى موجهات المركز ،فعلى سبيل المثال نضمن في الموازنة المشروعات التي ستنفذها الوزارت الاتحادية بالولاية ،ولكن في بعض الاحيان لاتتنزل على ارض الواقع بداعي المتغيرات والظروف الاقتصادية للدولة ،وكمثال نحن في نهر النيل واجهنا قضية المناصير مؤخرا وهي كان يجب ان تحل قبل سنوات وذلك لأنها كانت مضمنة في الموازنة ولكن الظروف الاقتصادية لم تساعد في حلها ،ويشير المدثر الى ان الولايات تعاني كثيرا من توفير الفصل الاول محملا اياه مسؤولية معظم ديون الولايات،وقال ان الحكومات تلجأ لسداد ماتبقى من العجز من مواردها الذاتية ،مضيفا:الدولة عملت على اتاحة فرص التوظيف لاعداد كبيرة من الخريجين ومسؤولية مرتباتهم تقع على عاتق حكومات الولايات رغم التزام المركز بمرتبات عامين ،ونحن مثلا في ولاية نهر النيل نكمل الفصل الاول بأربعة مليون شهريا وهي من مواردنا المحلية ومجبرين على ذلك رغم انها تؤثر على الخدمات ،ويعترف بتصرف الحكومات في بعض الحالات في اموال صندوق المعاشات ،معتبرا ان المبالغ المخصصة للولايات شهريا (بسيطة) ولاتكفي لمواجهة المنصرفات الكثيرة ،وقال ان الولايات مثقلة بالديون وتعاني اشد المعاناة منها ،مطالبا برفع نسبة دعم الولايات من الموارد القومية التي اعتبر ان معظمها يقع في الولايات ،وقال ان المركز مطالب باستشارة الولايات عند وضعه لخارطة تنفيذ المشروعات التنموية ،التي طالب ان تكون مشروعات اقتصادية تدر دخلا وتشكل موردا ،واستبعد امكانية قدرة الولايات على استنباط مواعين ايرادية بخلاف الرسوم التي قال إنها وبحسب توجيهات المركز لم تعد الحكومات تفرض زيادة عليها ،وختم حديثه قائلا:مجرد ايفاء الولايات بالفصل الاول كاملا امر تستحق عليه نيل درجة النجاح خاصة في ظل الاوضاع الاقتصادية الحالية ومواردها المحدودة. ضعف رقابي وبرغم اتفاق الكثير من خبراء الاقتصاد على ضعف الدعم المركزي الا ان هناك من يرجع مسؤولية تراكم المديونيات بخلاف قصوروضعف سياسات حكومات الولايات الى ضعف ادوار المجالس التشريعية الرقابية ،ويعتبرونها غير قادرة على القيام بمحاسبة الحكومات ولاتنحاز للدائنين والمعاشيين والعاملين ،ويعترف عضو تشريعي ولاية البحر الاحمر حامد ادريس في حديث ل(الصحافة) بضعف ادوار المجالس التشريعية التي قال ان اسرع ماتجيزه هو الموازنة دون ان تخضعها لنقاش مستفيض ودراسة كاملة ،وقال «الاعضاء لايجيزونها وحسب بل يبصمون عليها بالعشرة»،وقال ان هذه المديونيات الكبيرة غير مبررة ولاتوجد لها اسباب منطقية ،وارجعها الى الصرف البذخي وعدم ترشيد الموارد وتوجيهها نحو مشاريع لاعلاقة لها بتنمية الانسان ولاتضيف موردا للولايات ،معترفا بضعف ادوار المجالس التشريعية ،معبرا عن عدم رضائهم عن مايقومون به ،مضيفا»للأسف المجالس التشريعية بدلا من مراقبة اداء الجهاز التنفيذي ومحاسبته اضحت داعمة لكل خططه حتى لو كانت هناك اخطاء ،والديون الكثيرة توضح ان هناك فشلاً حكومياً واموالاً كثيرة مهدرة فيما لايفيد المواطن الذي كتب عليه ان يدفع ثمن اخطاء حكوماته مركزيا وولائيا. حلول ويرجع الخبير الاقتصادي محمد الناير في تصريح ل(الصحافة) ارتفاع مديونيات الولايات الى عدد من الاسباب ،مشيرا الى انها تضع موازناتها وتجيزها وهي تعاني من العجز على امل ان يغطي لها المركز هذا العجز ،موضحا غياب التنسيق بين المركز والولايات ،ويضيف:يفترض الا تجاز ميزانيات الولايات دون ان تكون متطابقة مع موجهات وموازنة المركز ومعرفة تفاصيل دعمه المقرر ،ولأن هذا الامر غير موجود على ارض الواقع تعاني الولايات من عجز دائم وتحاصرها المديونيات من كل الاتجاهات ،وفي ظل عدم وجود بدائل متاحة طبيعي ان تعجز في الايفاء بالديون ،ويعتبر الخبير الاقتصادي ان السبب الثاني لتراكم مديونيات الولايات عدم الايفاء بمستحقات الصناديق المختلفة ،وقال ان تضرر المعاشيين من هذا الامر يجعل الحكومة المركزية مجبرة على الخصم من نصيب الولايات الشهري ،معتبرا عدم ترتيب الاولويات من الاسباب المباشرة لتراكم المديونيات ،ورأى الناير ان الحل يكمن في توحيد وضع واجازة الموازنات بين المحليات والولايات والمركز ليكون هناك تنسيق لمواجهة العجز ،وان تفي حكومات الولايات بأموال صناديق المعاشات وغيرها.