دخلت نيالا هذه المرة خلسة متنكراً، واخترت وقت الذروة، وهو وقت مناسب للإفلات من عيون البشر وعيون الكاميرات التي يمكن أن توضع في اكثر الاماكن خطراً للمراقبة، وإن قل الخطر نسبياً في دارفور كما أفادت آخر تقارير اليوناميد، مما حدا بها الى تقليص عدد افراد الجنود العاملين ضمن بعثتها، ومثل هذه الأخبار هي من الأخبار النادرة السارة التي تأتينا من هذه الناحية «عافية دارفور» والعافية درجات. المهم طبيعة رحلتي الى نيالا هذه المرة مختلفة، فقد فجعت أسرة «آل كرم الدين» الممتدة من ودعة مروراً بشنقل طوباي ومرشنج الى نيالا برحيل عمتنا فاطمة بت كرم الدين رحمها الله وانزل على قبرها شآبيب المغفرة، والفقيدة أتت إلى نيالا منذ تاريخ بعيد كما كانت تحكي، اتت وهي ترعي أبقارها عند أطراف نيالا الشمالية حي المطار حالياً، وجبال سقرا وتبلدية كرم وما حولها، كانت هذه الاماكن مضاربها مع اترابها ومسارح صباها قبل أن تتحول هذه المنطقة الى غابات من المنازل السطوح وابراج تناطح السماء وتتطاول عبثاً لتنافس جبال أم كردوس و«سلبكتا» وبقية الجبال لتطمس تراث امة وحضارة شعب من أعظم الشعوب هو شعب الداجو سكان البلد الاصليون. وبعض الروايات تشير إلى صلتهم بالفراعنة، فوجود الأنفاق بين الكهوف والرسومات والكتابات والطقوس والاساطير قد تنبي عن الكثير إن وجدت المنطقة اهتماماً كشفياً أثرياً كبيراً، ووزير السياحة الجديد حسبو محمد عبد الرحمن رجل مبدع ومهتم، وندعوه لزيارة هذه الاماكن لأن السياحة مصدر مهم من مصادر العملات الصعبة، والبلاد في امس الحاجة اليها، وهو من قبل نيالاوي الاصل أينما حل نفع، ورجل مشهود له بالحركة والفعالية، ونهنئه ونتمني له التوفيق. ونعود الى نيالا ونيالا شمال على وجه التحديد، فقد كنت اول ضابط اداري يعمل في هذا المجلس مع بداية التسعينيات. واليوم صارت محلية، وكنا قد اخترنا مبنى التأهيل التتابعي مقراً بالقرب من سوق موقف الفاشر مناصفة مع احدى الشركات التي أنشأها المهندس الحاج عطا المنان عندما كان محافظاً لنيالا، وتخفيفاً لأعباء المعيشة قام بإنشاء شركة الخيرات لتوفير السلع الأساسية وباسعار زهيدة، وكان الأستاذ احمد الزين وهو من عقلاء نيالا مديراً لهذه الشركة، واستطاع أن يديرها بطريقة جيدة حققت اهدافاً مهمة في تلك الفترة، وما اشبه الليلة بالبارحة، فقد ارتفعت الاسعار ارتفاعاً لا يمكن ذوي الدخول المحدودة من الحصول على الضروريات ناهيك عن الكماليات، مما يحتم التفكير الجاد في مشروعات سريعة لكبح جماح الاسعارالمجنونة. وفي دارفور الأسعار تتضاعف بمتواليات لا أعرفها، وأحياناً بطريقة فوضوية، وحتى الآن لم أجد تفسيراً منطقيا لبيع الصحيفة في مدن دارفور بجنيهين، فكل شيء تضاعف سعره، ولا شك أن قراءة الصحف السودانية نوع من العذاب، واهل الخرطوم يتعذبون بجنيه. عذبوا الناس بالعدل ارفعوا الرسوم والضرائب والجمارك عن مدخلات الثقافة، نرفع شعار «الصحيفة بجنيه» في كل مدن السودان وتوحيد الأسعار، ويبدو ان هنالك بعض المسؤولين يخلطون بين مواد الثقافة ومواد البناء، ولا يعرفون أن الثقافة مثل الماء والهواء على حكم الشيوع لا تفرض عليها ضرائب ولا رسوم ولا يحزنون. ومن أغرب الأشياء أن أهل نيالا يقرأون الصحف حيَّة ثم تعاد اليهم ميتة في شكل راجع لاستخدامها لفافات بدلاً من أكياس النايلون التي منعت بتشريع ولائي منذ فترة حفاظاً على صحة البيئة وصحة الحيوان، ولكن استخدام الصحف السودانية وأكياس الاسمنت بهذه الطريقة ألم يكن محل نظر من الناحية الصحية؟ على كل حال الامر ليس بخافٍ على المسؤولين بنيالا. كثيرون لا يعرفون الوجه الآخر لمدينة نيالا، وكما اسميها نيالا الاخرى فهي غير التي تعرفون، حيث تمتلئ ضجيجاً وصخباً وحراكاً لا ينقطع، وبأشخاص من رجال ونساء، كذلك لنيالا الاخرى عالمها واعلامها، فهم يأكلون ويشربون ويعملون وينتجون مثلما يفعل الاخرون، ولكن انتاجهم مختلف عن «السوفت وير» كما يقول اهل الحواسيب، وما فائدة الفواخير دون البرمجيات؟ وما فائدة الجسد دون روح، فمدينة نيالا الأخرى بمثابة الروح. والحديث ذو شجون ولا يخلو من اشجان فقد مررت على الطريق بين نيالا ومنواشي ومرشنج، فهذه المنطقة كانت في يوم من الايام امتداداً لنيالا شمال، ولسهولة المواصلات تجدها اليوم كأنها من احياء نيالا الشمالية. ورحلتي إلى هذه المناطق هيجت فيَّ الذكرى، فقد عملت بها فترة من الزمن، ولاحظت سهولة الحركة وكثافتها، وصارت هذه المناطق من اكبر التجمعات السكانية خارج نيالا، فعدد سكان مرشنج اليوم يقارب السبعين الف، وبمنواشي اضعاف ما كان بالسابق، مما يعني التفكير في تقديم خدمات لائقة من مياه وصحة وتعليم وكهرباء وفرص عمل، وهذا هو المهم، فالتفكير في مشروعات زراعية ورعوية وتأهيلية من الأهمية بمكان حتى لا يهاجر الشباب الى نيالا وبقية المدن، فالتحدي كبير امام المسؤولين، ومنهم معتمد مرشنج الذي يتمتع باجماع ورضاء من اهل المنطقة، والرضاء من علامات النجاح، وهناك ملاحظة أخرى جديرة بالتنبيه، إذ أن هنالك نوعاً من التأمين الذاتي للطريق بين نيالا ومنواشي بعدد من الارتكازات الضرورية، ولاحظ المسافرون أنها أمنت الطريق الا انها زادت من زمن الرحلة نسبة لتكرار الوقفات، فيمكن تسديد مبلغ الدعم مرة واحدة عند بداية الرحلة او عند نهايتها، على ان تتولى جهة توصيل المبالغ للنقاط عبر وسيلة اخرى في نهاية اليوم، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً، والانسان على نفسه بصير. وحرصت في نيالا على أن التزم بطبيعة رحلتي، الى أن وقعت أسيراً في يد محمود الشين وعلي يونس محمدين، والاثنان ينتميان إلى مدرسة واحدة هي مدرسة الناس الغريقين العالمين ببواطن الامور وما خفي من اخبار الاولين والآخرين، وقلت لهما لماذا يتم اختطافي بهذه الطريقة؟ رد محمود الشين: الاختطاف في هذه المدينة منهج، فسكت!! وهو احد الناشطين والمتآمرين، فقد ادخلني دون سابق انذار في نيالا الاخرى، فجلست وجهاً لوجه مع شخصيات نيالاويةأصيلةنيالا عندها «بقت كل شيء» فقد احبوها لدرجة الوله والتماهي وتنسموا عبقها ورضعوا ثدييها مبكرين حتى صاروا إخوة واخوات بالرضاعة، وعندما تجلس اليهم وتستمع إليهم تدرك أنهم نفس نيالا وريحتها وام دفسو، جلست معهم في برنامج اذاعي يوثق لشخصيات نادرة ومبدعين رائعين، الاستاذ علي يونس محمدين الذي ارى نيالا في شخصه، والاستاذة فاطمة محمد الحسن امرأة تمنيت منذ مدة ان اطلع علي تجربتها مع النجاح، فقد اختارت لنفسها طريقاً مبكراً في الاهتمام بدارفور وتراث دارفور، وتقديم دارفور من خلال مشاركات عديدة في معارض داخلية وخارجية وعبر منتديات ولقاءات، وكم نالت من جوائز، واستمعت اليها وهي تقدم تجربة أكثر من ثلاثة عقود في مجال يقل فيه الاهتمام الرسمي الا قليلاً، فقد كان للمهرجانات الثقافية والدعم المادي والمعنوي من قبل المسؤولين في السبعينيات أثر كبير في ابراز مواهب وابداعات شكلت ركيزة اساسية للحياة الابداعية في البلاد، وليت الناس يعودون لفكرة المهرجانات القومية، ولا بأس الولائية ان تعذرت، فالولايات زاخرة بمبدعيها ومواهبها. وبالمناسبة مدينة نيالا ليست مدينة اقتصادية فقط كما يعتقد الناس، فهي مدينة ثقافية من الدرجة الاولى. وهناك أمر آخر لا يقل اهمية، وهو ان المجموعة النواة المكونة من المذكورين اعلاه وآخرين، هم بصدد القيام بعمل كبير يخص نيالا ودارفور متعلق بجمع وتوثيق لشخصيات واماكن وكل أثر عن نيالا، وبصدد إصدار كتاب نيالا الذي يشكل جزءاً من كتاب كبير عنوانه «دارفور»، وهو عمل شاق ولكنه ليس مستحيلاً عند أولي العزم. وسيقول المثبطون اين لكم بالمال؟ ونقول نحن اصحاب فكرة والافكار قبل الاموال، وهذا العمل يستحق فلنحشد له الناس. ولا شك أن الكثيرين لديهم الكثير عن نيالا، وعن دارفور يعرفون أكثر مني، فقط عليهم أن يتركوا عادة البخل بالأشياء الجميلة، وكم هي جميلة نيالا مدينتي. والله الموفق.