كانوا يقولون: «أدركته حرفة الأدب»، إذا تكلموا عن إنسان أديب افتقر لأنهم كانوا يعتقدون أن الأدب حرفة الفقراء.. فكيف إذا جمع إنسان إلى حرفة الأدب حرفة الفلسفة والدراما! فهذا يكون جامعاً خيال الأدباء وإبداع الدراميين وأوهام الفلاسفة، وسيبتعد بذلك جداً عن مشابهة الدنيا التى قال عنها المتنبي: شبيه الشيء منجذب إليه وأشبهنا بدنيانا الطّغام والطغام «طاء وغين وميم» هم الرجرجة والدهماء والسوقة والعامة. وهذا ما حدث للإغريق بالضبط. لكنهم فى أوروبا يسمون أهل اليونان «بكلاب أوروبا» لفقرهم إذا ما قورنوا بدول أوربا الغربية الأخرى. وأمس قال رئيس وزراء بريطانيا ديفيد كاميرون فى اشارة إلى اليونان «وربما أسبانيا» إنه على من أراد أن يبقى فى الاتحاد الأوروبى أن يثبت على قواعده أو يغادره (Either hold up or break up) وقال المسؤول المالى فى الاتحاد الأروبى: لن نسمح بمزيد من الضمانات المالية No more bail outs هؤلاء الأغريق هم أدباء أوروبا القديمة وفلاسفتها، ويكفى أن نذكر هوميرس صاحب الإلياذة فى الأدب، وأرسطو وأفلاطون فى الفلسفة، وسفكليس فى الدراما. والأروبيون يعترفون بأن إعادة ميلاد الحضارة الأوروبية كانت بسبب ترجمة الكلاسيكيات الأدبية والدرامية والفلسفية الاغريقية بجهد عربى مسلم مرة فى بغداد فى القرن التاسع ومرة أخرى فى طليطلة فى القرن الثاني عشر الميلادي، ولولا ذلك لظلت أوربا جاهلة بالمكون الأساسي لثقافتها الذى بنت عليه من بعد حضارتها وقوتها. لماذا تريد أوربا أن تتخلى عن جدتها الحكيمة اليونان؟ ولماذا يصرح ديفيد كاميرون رئيس وزراء بريطانيا «الخميس 17/5/2012م» بأن على اليونان أن يثبت أو يتخلى فى هذا اليوم بالذات الذى انطلقت فيه من اليونان الشعلة الأولمبية نحو لندن لتشتعل لندن بالمنافسات الأولمبية فى يوليو القادم، ولتتجلى فيه بأبهى ما عرفت من حلل البهاء فى أعظم مواسم عمرها؟ ليت ديفيد كمرون استمع إلى حكمة شاعر عربى افريقى من السودان اسمه أبو قطاطى حينما قال: «البعجز ويقع بيناتنا بنسنده»، ولماذا لا يستمع ديفيد كمرون لأبو قطاطى وقد استمع له من قبل الكوريون بل بنوا له تمثالاً فى عاصمتهم. لكن إذا لم يحترم الانجليز ماضي الحكمة الاغريقية التى أرضعتهم لبان الفهم هل تراهم يلقون سمعاً لحكمة من بلد افريقى من بلاد العالم الثالث؟ هل أخطأ الأغريق لما لم يستعمروا البلاد الأخرى كما فعل البريطانيون والفرنسيون والأسبان والبرتغاليون والايطاليون والهولنديون؟ وهل لأنهم لم يفعلوا افتقروا ومن ثم احتقروا هنالك؟ هل منعهم أدبهم وفلسفتهم من الاستعمار أم عجزوا عن إعداد أدواته.. أهى عفة عن الاستعمار أم عدم قدرة عليه؟ الاغريق كما عرفناهم فى السودان وكما عرفوا فى مصر قوم مسالمون «وعشريون» يرضون بالتجارة «جملة» كانت أو حتى «قطاعي»، ويقبلون العمل فى الوظائف الوسيطة تحت الاستعمار الغربى مثل الترجمة ومسك الدفاتر والإدارة، وهم قوم طيبو القلوب هينون لينون يندمجون فى المجتمعات الأخرى بشكل مذهل، وفيهم أمانة ونزاهة واستقامة. وهم فى أوروبا مثل عزيز القوم الذي زلَّ، أو كالتاجر الغني الذي ضاعت أمواله أو كصاحب السلطان الذي أدبر عنه سلطانه. الدنيا وأهلها لا يبكون مع من ضاع مجده، ولا يذكرون أياديه له عليهم، وربما لاموه لأنه قصَّر فى حق نفسه لما لم يظلم الآخرين ليتقدم.. ألم يقل زهير: ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه يُهدّم ومن لا يظلم الناس يُظلمِ؟!