تعاني اليونان بلد أرسطو وأفلاطون هذه الأيام من أزمة مالية قياسية جعلت الأغاريق المعروف في طبعهم المسالمة والوداعة كأنهم الليوث هياجاً وزمجرة... ملأوا الشوارع بالمظاهرات وتبادلوا مع الشرطة اللكمات والصفعات بعد أن قررت حكومتهم فرض إجراءات تقشفية قاسية استجابة لمطالب الاتحاد الأوروبي الذي سيدفع مئات المليارات من الدولارات لسد هذه الفجوة المالية والتي يقال إن شرها سيمتد ليعصف بأسبانيا والبرتغال كذلك. هل أدركت اليونان حرفة الأدب؟ لماذا هذا الإفلاس وأوروبا ما شاء الله آخر نغنغة وآخر بسط؟ نعم فلسفة اليونان وأدبها التاريخي ومسرحها ربما يكون من وراء تكوين شخصية الإغريقي الذي هو أشبه بالحمامة بين صقور أوروبا الكاسرة. فاليونان لم تستعمر بلداً ولم تغز أحداً وما عرف عنها اكتشاف لأسلحة فتاكة ولا أساطيل عابرة للقارات ولا أسلحة دمار شامل ولا يكاد يسمع أحدٌ أنها تدخلت في شئون دولة من الدول سوى صراعها «بيضة الديك» المعروف مع تركيا حول وضع القبارصة اليونان في قبرص ودعمها «لفكرة» أن الأرمن قد تعرضوا لإبادة جماعية من قبل تركيا في بداية القرن العشرين المنصرم. حتى صراعاتها تكاد تكون صراعات «فلسفية» قائمة على «الاعتبارات» و«الأوضاع» أكثر منها صراعات الاستحواذ وإبراز العضلات و«الحقارة» و«حمرة العين» التي تتمتع بها جاراتها وزميلاتها في الاتحاد الأوروبي الأخريات. فاليونان تختلف على مدى التاريخ في ثقافتها عن ايطاليا فقد عرف عن أثينا في أيامها الأولى انصرافها نحو الفلسفة والمسرح والأدب والمنطق بينما أن روما كانت معروفة بالتدريب العسكري والرياضة البدنية والقانون وعلم سياسة البلدان. والأوربيون يعتبرون الثقافة الكلاسيكية الإغريقية بصفة خاصة مع الرومانية هي مرجعيتهم الثقافية الأساسية فعندما اهتدوا إلى كنوز هذه الثقافة التي كشفها لهم العرب والمسلمون في القرن التاسع والعاشر الميلادي في بغداد والقرن الثاني عشر الميلادي في طليطلة في الأندلس بعد أن طمرها غبار الزمن عن طريق الترجمة... وعندما بدأوا يقطفون ثمارها منذ القرن الرابع عشر إلى القرن السادس عشر سموا فترة الانتباه إلى جذورهم الثقافية الكلاسيكية هذه بالنهضة (RENAISSANCE) وهي كلمة فرنسية معناها إعادة الميلاد. أوروبا لن ترضى أن تنهار اليونان لأن في ذلك معنى انهيار القاعدة الثقافية التاريخية التي تقوم عليها الفكرة الأوروبية كلها. الأوربيون على غير عادتهم سيدفعون مئات المليارات من اليورو «أو الدولارات» دفعاً حقيقياً إذ أن الحكومة الإغريقية قد تكون استلمت الآن الدفعة الأولى من هذه الأموال الموعودة بالفعل... لكن هذه ليست عادة الأوربيين الذين عادة ما يعدون بالمال بعد الكوارث والحروب والاتفاقات ثم يهملون الأمر وكأنهم لم يعدوا وإذا ذكرهم مذكر بوعدهم لا يذكرون... لكن هنا جاءهم الأمر في «اللحم الحي». يذكر السودانيون للإغريق اندماجهم في المجتمع السوداني ودخولهم في استثمارات صغيرة كفتح الحوانيت وإقامة الأفران «من ينسى فرن بابا كوستا الشهير والذي أطلق اسم صاحبه على شارع من شوارع وسط الخرطوم الآن».. والمكتبات فما تزال مكتبة ديمتري البازار ووالده من قبله إحدى معالم العاصمة التاريخية ودور هذه المكتبة في تسجيلات أغاني الحقيبة دور مشهود مشكور. وقد كان معنا في كلية الآداب بجامعة الخرطوم الأستاذ اندرياس الإغريقي الذي جاء إلى الخرطوم من القضارف ولا زلت أذكر له طرفة حكاها لي عن واحد من مواطنيه الإغريق أنه كان يجد صعوبة في نطق الحاء إذ كان يبدلها خاء وكان له دكان يعمل فيه معه سوداني يدعى حبيب قال جاء إليه سوداني آخر اسمه محمد يطلب حلاوة فقال الإغريقي لحبيب: «يا خبيب أدي مخمد خمسة خبة خلاوة».