الغموض الذى اكتنف إقدام الفريق أحمد شفيق على خوض سباق الرئاسة المصرية والدعم المادى الهائل الذى نعمت به حملته وما حصده من نجاح حتى بات على مرمى حجر من الرئاسة، هذا الغموض لا يشابهه إلا ذاك الغموض الكوميدى فى مسرحية «عش المجانين» لحسن عابدين ومحمد نجم، وهو يردد تلك اللازمة المحفوظة «شفيق يا راجل»، فالرجل الذى يدمغه خصومه بتهمة «الفلول» تماماً كما دمغ أهل السودان عقب الانتفاضة أركان النظام المايوى بمسمى «السدنة»، من المحتمل أن يصبح أول رئيس مصرى منتخب ديمقراطياً رغم سخط قوى الثورة وتوجس التيارات الإسلامية. قوى الثورة فى مصر خصوصاً الليبراليون يعيشون مأزقاً سياسياً بعد ظهور نتائج الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية، وهو ما سموه «مأزق الرمضاء والنار» فى إشارة الى انحصار السباق ما بين مرسى «الإخوانى» وشفيق «الفلول» كما يسمونهما، ولقد جاهدت قوى كثيرة لإعاقة صعود هذين المرشحين، فالإخوان كان من الممكن أن يكونوا بلا مرشح بعد أن استبعدت اللجنة العليا للانتخابات مرشحهم الأساسى خيرت الشاطر، إلا أنهم بحكم الخبرة التنظيمية المتراكمة تحسبوا للأمر بتسمية مرشح احتياطى هو الدكتور محمد مرسى أستاذ الهندسة، أما شفيق فقد نجا هو الآخر من الاستبعاد رغم صدور قانون العزل السياسى الذى يشمله، فتعللت اللجنة العليا للانتخابات بعدم دستورية قانون العزل ربما بتواطؤ مع المجلس العسكرى وأقرت استمراره فى السباق الرئاسى، ومازال هناك أمل لخصوم شفيق في أن يستبعدوه إذا ما نجح طعنهم أمام المحكمة الدستورية العليا الذى يدفع بدستورية القانون، مما قد يزيد الوضع السياسى فى مصر تعقيداً وإرباكاً وغموضاً. ومن المفارقة أن سيناريو استبعاد أى مرشح إخوانى كان يتم بدعم مشترك بين المجلس العسكرى الحاكم والقوى الليبرالية للثورة، بينما سيناريو استبعاد شفيق ينشط فيه الليبراليون والإخوان معاً فى مواجهة المجلس العسكرى الذى يرجح دعمه لشفيق. إن المشهد السياسى فى مصر اليوم بات يحكمه توجسان أو خوفان، توجس وخوف من الدولة الدينية وآخر من عودة الفلول والنظام السابق، وما بين هذا الخوف وذاك التوجس تقف قوى سياسية كثيرة حائرة ما بين الرمضاء والنار على حسب تعبيرهم، إذ لم يعد هناك خيار ثالث. وهذا الوضع المرتبك يستفيد منه فقط المرشحان الفائزان، فأنصار الثورة باتوا مرغمين على التصويت لمرشح الإخوان ليس حباً فيه ولكن كرهاً فى شفيق وما يمثله، وكارهو الإخوان ليس أمامهم سوى شفيق فزعاً من تهديد بقاء الدولة المدنية. لقد كتبت من قبل حول التشابه ما بين سودان ما بعد الانتفاضة ومصر ما بعد الثورة، خصوصاً فى ثنائية «السدنة» هنا و«الفلول» هناك. وفى تقديرى أن تجربة أهل السودان كانت أكثر نضجاً حين تآلفت كل القوى السياسية ودفعت بمرشح واحد لمحاصرة ترشح الدكتور الترابى فى دائرة الصحافة، حتى أسقطته باعتبار أنه أحد سدنة النظام المايوي، ورغم كل ما يقال حول هذه الممارسة إلا أنها تملك قبولاً أخلاقياً مشروعاً بعكس محاولات سن وتمرير قوانين العزل السياسى استناداً على «الشرعية الثورية» وهي شرعية كاذبة وغير ديمقراطية اُرتكبت باسمها العديد من التشوهات فى العالم الثالث. وكان يمكن لقوى الثورة الليبرالية فى مصر أن تتوافق على مرشح واحد يمثلها قبل أن تجد نفسها تتباكى فى هذه المتاهة بدلاً من الدفع بعدة مرشحين من بينهم حمدين صباحى وعمرو موسى وأبو العز الحريرى وخالد على وحتى عبد المنعم أبو الفتوح. ترى ما هو مستقبل حصاد الصناديق فى الجولة الأخيرة بين مرسى وشفيق؟ فى تقديرى أن هناك أربع كتل انتخابية مؤثرة ستحسم هذا المستقبل، أولها الكتلة الكبيرة من الناخبين الذين لم يصوتوا فى الجولة الأولى، وهؤلاء يتجاوزون الخمسين بالمائة، ولا يملك أحد أن يتكهن باتجاهات تصويتهم، الكتلة الثانية هى السلفيون من حزب النور وغيره من الجماعات السلفية وهؤلاء أعلنوا صراحةً دعمهم لمرسى فى مواجهة شفيق، والكتلة الثالثة هي الأقباط الذين من المرجح أن يدعموا شفيق لا حباً فيه بل فزعاً من الدولة الدينية، بينما الكتلة الرابعة هى قوى الثورة من الليبراليين وهؤلاء حائرون أمام الصناديق، إذ لا يرضيهم مرسى أو شفيق.. لا يريدون الدولة الدينية ويمقتون الفلول، لذا ليس أمامهم سوى «الحرد» والمقاطعة أو المفاضلة ما بين الرمضاء والنار.