بتعادل جنوني.. لايبزيج يؤجل إعلان تتويج بايرن ميونخ    منظمة حقوقية: الدعم السريع تقتل 300 مدني في النهود بينهم نساء وأطفال وتمنع المواطنين من النزوح وتنهب الأسواق ومخازن الأدوية والمستشفى    التلفزيون الجزائري: الإمارات دولة مصطنعة حولت نفسها الى مصنع للشر والفتنة    السودان يقدم مرافعته الشفوية امام محكمة العدل الدولية    وزير الثقافة والإعلام يُبشر بفرح الشعب وانتصار إرادة الأمة    عقب ظهور نتيجة الشهادة السودانية: والي ولاية الجزيرة يؤكد التزام الحكومة بدعم التعليم    هل هدّد أنشيلوتي البرازيل رفضاً لتسريبات "محرجة" لريال مدريد؟    "من الجنسيتين البنجلاديشية والسودانية" .. القبض على (5) مقيمين في خميس مشيط لارتكابهم عمليات نصب واحتيال – صورة    دبابيس ودالشريف    النهود…شنب نمر    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    "المركز الثالث".. دي بروين ينجو بمانشستر سيتي من كمين وولفرهامبتون    منتخب الضعين شمال يودع بطولة الصداقة للمحليات    ندوة الشيوعي    الرئاسة السورية: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي تصعيد خطير    د. عبد اللطيف البوني يكتب: لا هذا ولا ذاك    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    المرة الثالثة.. نصف النهائي الآسيوي يعاند النصر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ثقافة الاعتذار ضرورة لبناء الثقة المطلوبة للعبور
في مائدة مستديرة حول الأزمة الوطنية بالدوحة (3)
نشر في الصحافة يوم 06 - 06 - 2012

جمع المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (معهد الدوحة) الفرقاء السودانيين في مائدة للتفاكر حول الازمة الوطنية السودانية يومي 26 -27 مايو بفندق الرتز كارلتون في الدوحة.
ناقش المشاركون (الأزمة الوطنية.. الابعاد والخسائر) و (المثقف والازمة الوطنية) و(سيناريوهات المخارج المحتملة ودراسة السياسات) ورأى المشاركون ان وقف الحرب المدخل الرئيس لحل الازمة. وشهدت مداولات اللقاء الذي عقد على شكل«مائدة مستديرة» مداخلات بناءة من المشاركين وخاصة من ممثل الحكومة مطرف صديق واحمد حسين القيادي في حركة العدل والمساواة حيث ركزا على شمولية الحل وسلمية تفكيك الازمة السودانية واتفقت آراء المشاركين ان الوقت حان للتغيير.
ومن اللافت ان المشاركين يمثلون جيل الوسط وقدموا افكاراً جديدة. وقد اشادوا بمبادرة «معهد الدوحة» ومديره الدكتور عزمي بشارة في تشجيع الحوار بين الفرقاء السودانيين ويمكن القول ان «العصف الذهني» الذي جرى هو اول حوار جرئ بين فرقاء السودان.
كل الطرق مغلقة:
في ورقته «السودان: كل الطرق مغلقة» يتحدث محمد عثمان ابراهيم عن الحكومة غير الديمقراطية التي وجدت مساندة كبيرة لتبقى غير ديمقراطية سواء بتحالف «قطاع الشمال وحلفائه» أو بتواطؤ الخصوم، أو بعجز الجماهير، أو تخذيل الطبقة الوسطى المتنامية العدد والمتخوفة -عن حق- من أي تغيير قد يهدم ما استطاع الناس التعايش معه دون أمل في بناء ناموس جديد، أو أي اسباب أخرى ذات صلة.
ويتحدث عن تيار معارض كبير يستمد وجوده من تراكم أخطاء النظام ومن استعداد النظام نفسه لإرتكاب المزيد من الأخطاء بشكل يومي لأسباب تتعلق ببنيته الداخلية التي تعتمد في قوامتها على القوى السياسية الأخرى بالإلتزام بممارسة بعض الخطأ والبحث عن مبررات له كما كان الأمر في الأيام الأولى ودون الإجتهاد للحصول على مبررات كما هو الحال الآن.
يقول ابراهيم ان الحكومة قالت كلمتها بالتقسيط الممل خلال الثلاث والعشرين سنة الماضية أما المعارضة فلم يتركوا لها ما تقول!. مشيرا الى ان التيار المعارض الآن في السودان، على امتداد مناصريه في الداخل والخارج، أكثر شبهاً بالنظام الحاكم من نفسه، والأحزاب المعارضة في مجملها تشكل مناطق نفوذ لسلطة أخرى موازية تحكمها بوسائل أبشع وأكثر إحكاماً وتدقيقاً وقهراً من المناطق التي تتوفر فيها سلطة الحكومة المترهلة والمثقلة بالمنازعات والعوز وقهر الحلفاء الأجانب! الحكومة تراقب الصحف في المطابع والمعارضة تراقب صحفها فقط! الكل -هنا- حسب قدرته وربما حسب حاجته أيضاً!
ويقول ابراهيم ان كثيرين رأوا وشهدوا كيف كانت المعارضة ولا تزال هي الأكثر غلظة في ممارسة الرقابة سواء في صحفها الباهتة أو نشراتها السرية أو إذاعة التجمع الوطني الديمقراطي من أسمرا والتي كان شعارها العمل يخلق الأخطاء وعدم العمل يحقق السلامة لذلك فقد اعتمدت بشكل كبير على قراءة الصحف وإجراء الحوارات المملة خلال زمن البث الثمين.
يقول ان الحكومة متهمة بأنها غرست مسماراً في رأس خصم سياسي قبل سنوات والمعارضة متهمة كذلك بأنها غرست جملة من المسامير في رأس حليف سياسي «وليس خصماً». الحكومة متهمة بأن قادتها مفسدون في المال والمعارضة فيها رموز جنوا من المال في خمس سنوات ما عجز عتاة المفسدين الحكوميين عن جنيه في ربع قرن. ساسة حكوميون ينقبون عن الذهب بشكل عشوائي ومعارضون يفعلون ذات الشيء بذات الأدوات. الحكومة متهمة بممارسة القتل على أسس عنصرية والمعارضة كذلك متهمة بذات الممارسة «يمكن الحصول على امثلة من مناطق النيل الأزرق». الحكومة توظف قادة «ذوي حظ متدن من التحصيل والمعرفة» في وظائفها العليا وكذلك تفعل المعارضة. الحكومة تخلق لطالبي الوظائف والمشاغبين مناصب وهمية مثل الخبير الوطني والمستشار والقيادي وغيرها فيما بلغت الحركات المعارضة شأواً لم تسبقها عليه حتى الحركات المعارضة الأبدية مثل حركة فارك الكولمبية أو حزب العمال الكردستاني إذ حمل أحد قادة إحدى قوى المعارضة السودانية لقب نائب رئيس حركة «...» لشئون التعليم العالى والبحث العلمى! بحث علمي؟
ويقول ابراهيم ان أكثر الإفتراضات تفاؤلاً وحياداً قد تقول بأنه بالنسبة للمواطن لا فرق جوهري إن حكم البشير أو مالك عقار لكن قد تكون هناك فوارق نوعية: سيكون جبريل ابراهيم في مكان علي عثمان محمد طه، وعبدالعزيز الحلو في مكتب عبدالرحيم محمد حسين، ومني أركو مناوي في مكان نافع علي نافع، وياسر عرمان في مكان غازي صلاح الدين أو عبدالله علي مسار، وعبدالمنعم الجاك بديلاً لإسحق أحمد فضل الله! لن يمضي علينا وقت على الإطلاق دون أن نحصل على بديل من الضفة الأخرى ل«الطيب مصطفى ، وقيقم، عبدالحي يوسف» وغيرهم مع الإحترام. الفرق سيكون في واشنطن: هل ستعتبر الدكتاتور دكتاتورها الحبيب «مثل أوبيانغ» أم ستعتبره دكتاتور العدو «مثل أحمدي نجاد»!
الحقيقة هذه الحكومة المتخيلة لن تنشأ لسبب بسيط هو أن «العرب» سيرفضون حكومة «العجم» المقبلة ولديهم من الوسائل ما يكفي لمقاومتها واسقاطها. العرب في مثلث عبدالرحيم حمدي الذي نال الكثير من حظ التشنيع والمعاداة يظل حقيقة قائمة وسواء حمل هذا المثلث السلاح أم لم يحمله فإنه قادر تماماً على اسقاط أي حكومة لا تمثله. الحكومة المتخيلة إياها لن تنشأ لأسباب كثيرة أخرى منها قصر نفس جوبا عن الإستمرار في معركة طويلة من هذا النوع، وعجز معارضة قادة المعارضة الحالية بقدراتهم المشابهة لقدرات قادة الحكومة على إقناع الجماهير هنا، وصناع القرار هناك في واشنطن والعواصم الغربية بمساندتهم.
ويصف ابراهيم الوضع على النحو التالي: الآن الحكومة هي حكومة المؤتمر الوطني وحلفائه الأصغر، والمعارضة هي معارضة جبهة كاودا زائداً المؤتمر الوطني. البقية الباقية من القوى السياسية الأخرى يمكن إدراجها، إذا توفرت طيبة الخاطر، في الأغلبية الصامتة هذا ليس تشنيعاً بها بقدر ما هو توصيف لحالتها. الحكومة تملك التلفزيونات والإذاعات والصحف والمواقع على الإنترنت والمعارضة لا تملك شيئاً من هذا. الحقيقة ان ما تملكه الحكومة من وسائل إعلام مخجل للغاية والدكتاتورية التي تتجلى فيها شبيهة بتلك الدكتاتورية النقية من كل شائبة والتي تمارس في كوريا الشمالية فقط في عالمنا الحالي. القراءة بالعين السياسية المجردة تقول ان احتمال سيطرة المعارضة على السلطة يظل راجحاً بنسبة 50% وهو ما يعني خروج الحكومة الحالية الى المعارضة الأمر الذي سيخلق وضعاً أشبه بالوضع الحالي، في أكثر التنبؤات تفاؤلاً. حين نمضي قليلاً في اغماض العينين ورؤية المستقبل سنري تحالف مروي يشن الحرب على حكومة كاودا وسنرى علي كرتي، ومحمد عطا، وصلاح قوش، وعبدالرحيم محمد حسين مثلاً يقودون الكتائب المهاجمة للمنشآت الإستراتيجية بينما سنرى مالك عقار في افتتاح مشروع تعلية سد الروصيرص يتفاعل مع هتاف جماهيره الصارخ «الرد بالسد..» ستتناسل دورات التاريخ الى ما لا نهاية. بلغة أخرى إذا كانت الحكومة مجنونة والمعارضة مجنونة فما هو احتمال الحصول على دولة عاقلة؟
ويمضي ابراهيم الى ان نظرية الإحتمالات تقول بسقوط قطعة النقود المعدنية ملك أو كتابة فماذا إذا سقطت قطعة النقود إياها على رأسها وتركت الملك والكتابة على الجانبين؟ ويخاطب المشاركين في المائدة المستديرة بالسؤال: ماذا إذا قيض الله لنا أن نحصل على حكومة عاقلة يرأسها أحدكم وتتشكل من حضراتكم قادة الرأي والمعرفة هنا في هذه القاعة العامرة؟ ويجيب: اعتقد أن هذه ستكون أعقل حكومة ممكنة بعد إضافة السيدين مبارك الفاضل المهدي والحسن الميرغني اليها ويعلق ساخرا: «كنت أتمنى لو كانا معنا في هذه القاعة طمعاً في تنزيلهما الى مستوى التحاور مع الشعب، وأملاً في ترفيعهما الى مستوى الإنشغال العامل بهموم الشعب». ثم يقول: هذه الحكومة، أي الحكومة العاقلة، لن تعيش يوماً واحداً- للأسف- لأن أياً من تحالف مروي أو تحالف كاودا قادر على اسقاطها بالضربة القاضية أما إذا شكل التحالفان تحالفاً جديداً أسموه المساومة التاريخية على برنامج حد أدنى يهدف الى اسقاط الحكومة «العاقلة» وإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية تحت إشراف مجلس قيادة الثورة الجديد الذي يقوده المشير عمر البشير ونائبه الفريق «سيصير فريقاً أولاً حينها» مالك عقار، فالبقاء لله وحده.
ويختم ابراهيم بان أفق البلاد الآن في حالة انسداد كامل و إمكانات الخروج السلس من الأزمة ليست في الحسبان، على الأقل في الوقت الراهن!
جحد التنوُّع:
في ورقته «جحد التنوُّع: متلازمة المرض السوداني» يذكر كمال الجزولي ان التنوع ينطوي على دلالة الاختلاف، لا الخلاف، من حيث أنه لا يعني، في الأصل، أية قطيعة بين مفردات الوطن الإثنيَّة، وتكويناته القوميَّة، بل يعني، ببساطة، حالة من التميُّز لا تمحوها القواسم، حقيقية كانت أو متعمَّلة، فلا مناص، إذن، من الاعتراف بهذا التميز، وبحقه في التعبير عن نفسه، وفي النمو والازدهار، مع إتاحة الفرصة له للانفتاح على ما عداه بمستوى من التكافؤ يجعل من هذا الانفتاح مشروعاً لتثاقف سلمي هادئ، وحوار ديموقراطي مرموق. ذلك أن المختلِف ليس، بالضرورة، مخالِفاً في معنى المتناقض العدائي. ويقول انه لو تم استبعاد المقابلة الاصطلاحية التناحرية الفاسدة التي عادة ما يصطنعها كلا أيديولوجيي المركز العربوإسلامويين وأيديولوجيي الهامش الانفصاليين، من أجل تبرير حربهم العرقية الدينية، غير آبهين إلى الحقيقة الموضوعية القائمة في كون العروبة، أصلاً، من أبرز مكونات ا-فريقانية، لأدركنا أن ما يجمع بين شتى التكوينات القوميَّة السودانيَّة أكثر بكثير مِمَّا يفرِّق.
ويشدد الجزولي على ان وجود تكوينات قوميَّة متنوِّعة، أي مختلِفة، ليس هو السَّبب في هذا الحريق الوطني الشَّامل الذي لطالما عانت وما زالت تعاني منه بلادنا، بل إن جحد هذا التنوُّع، وسوء إدراكه، وسوء التخطيط، بالتبعية، للسِّياسات المتعلقة بإدارته في المركز تجاه الهوامش، لا بالنسبة لشعوب الجنوب وحدها، وإنما، أيضاً، بالنسبة لشعوب الغرب والشَّرق وربَّما الشَّمال الأقصى، هو السَّبب الحقيقي في عدم توازن التنمية بين هذا المركز وهذه الهوامش، وفي ما ظل يترتب على ذلك من أوهام الاستعلاء، والاستضعاف، والاستتباع، وجحد حق الآخر المشروع في أن يكون آخر، ومن ثمَّ جحد حقه في ممارسة اختلافه، وما ينتج عن كل ذلك من ردود الأفعال العنيفة من الهوامش تجاه المركز، والتي تنشأ، بالضرورة، عن تفاقم فقدان الثقة المتبادل، وتتخذ، تقليدياً، صورة المجابهات المسلحة.
ويقر الجزولي بأن الاستعمار لعب دوراً قصديَّاً مباشراً في تكريس هذه المشكلة ومفاقمتها، ليعود ويقول انه لم يخترعها، وإنما عمد للاستثمار في أوضاع تاريخية سالبة وجدها قائمة، أصلاً، على الأرض لما يناهز الخمسة قرون قبل مجيئه، وبالتالي لا معنى للتركيز على دوره وحده. ويشير الى ان السودان دخل مرحلة ما بعد اتفاقية الحكم الذاتي فبراير 1953م وهو موحَّد، ودخل مرحلة ما بعد الاستقلال يناير 1956م وهو موحَّد، وما كان ذلك ليكون لولا أن النواب الجنوبيين صوتوا مع إعلان استقلال السودان الموحد من داخل البرلمان الأول في 19 ديسمبر 1955م ، مقابل محض كلمة شرف من الأحزاب الشمالية بتلبية أشواقهم للحكم الفيدرالي بعد الاستقلال! وقد كان من الممكن أن يشكل ذلك، في ما لو كانت الأحزاب أوفت بوعدها، نموذجاً في التعامل المستقيم مع أشواق الآخرين من النوبا في جنوب كردفان وغيرهم، على امتداد السنوات الخمسين الماضية. لكن جرى النكوص عن العهد، فشكل ذلك بداية درب الآلام الشائك الطويل الذي ما زلنا نقطعه بأقدام حافية؟!
ويتناول الجزولي دور من يطلق عليها إنتلجينسيا المستعربين المسلمين الجلابة التي تصدت لقيادة الحركة السياسية الشمالية منذ ما قبل مرحلة الاستقلال السياسي. ومن بعد يشخص المشكلة، في حقيقتها بانها «مشكلة وطنية في ظروف التخلف» ويقول انه كان من الممكن تناولها بهذا الفهم، منذ أول أمر الاستقلال السياسي، وبناء الدولة الوطنية، لا في مستوى التنظير، فحسب، وإنما التطبيق أيضاً، في ما لو كان قدِّر للعقلانية أن تسود، باكراً، علاقات التساكن السوداني، أو قدِّر للكلمة الوطنيَّة الدِّيموقراطيَّة أن تكون مسموعة في موقع اتخاذ القرار، أو كان من الممكن اعتبار «التخلف الاقتصادي»، أو «التنمية الاقتصادية غير المتوازنة»، بمثابة السبب «الوحيد» للمشكلة، بحيث لا يحتاج علاجها، نهائياً، إلى أكثر من تخطيط وتنفيذ مشروعات مختلفة لهذه التنمية. ويشير الى أننا نكاد نكون نسينا، الآن، الأسباب الهيكلية لاندلاع الحرب، بينما راحت تتفجر في وجوهنا، مع كرِّ مسبحة السنين، منظومة المُدركات والتصورات والفهوم السالبة لهويتي الذات والآخر، كإحدى أخطر النتائج المترتبة على الحرب نفسها، لتشكل، بذاتها، سبباً مستقلاً لمفاقمتها رغم أن هذه المنظومة ما تنفك تتخفى، في الغالب، خلف التعبيرات الدينية، كصورة للوعى الاجتماعي المقلوب الذي لطالما غذته أيديولوجية التسلط والاستعلاء، وعززته العدائيات في الذهنيَّة العامة.
ويقول الجزولي إن من أهمَّ الحقائق التي ينبغي أخذها فى الاعتبار بشأن مشكلة الاستعلاء والتهميش هو أنها لم تبدأ بانقلاب الثلاثين من يونيو عام 1989م، وإن كان استيلاء التيار الأكثر غلوَّاً وسط العربوإسلامويين على السلطة في ذلك التاريخ قد ألهب اشتعالها بالحد الأقصى.
العبور للبقاء:
في ورقتها بعنوان «العبور للبقاء، ومن التنوع للتعددية الثقافية «المقسمة الى ستة مباحث قدمت رباح الصادق مقترحا لميثاق ثقافي قالت انه يمكن أن يشكل نواة للتداول حول السياسات الثقافية المطلوبة .
في المبحث الأول «حول العبور من الأزمة إلى الحل» قالت ان الأزمة الحالية تتلخص في فرض سياسات ارتجالية أحادية انفرادية والعناد في تطبيقها والهروب إلى الأمام لدى كل منعطف، هذا الأمام الذي يتم اللواذ به هو القبول بالحلول الأجنبية التي تنطوي على فرض رؤى تبسيطية معضدة برؤى وخطط لتمزيق السودان إلى خمس دويلات على نحو ما قال آفي ريختر وزير الداخلية الإسرائيلية من قبل. مشددة على انه لا حل إلا في مواجهة التناقضات والمظالم والرؤى الوطنية بموضوعية وتجرد والوصول إلى الحل بإجماع الناس، بتوافق يحقق السلام الشامل والتحول الديمقراطي الكامل، ويطمئن المؤتمر الوطني للجلوس والاتفاق، وبالضرورة نفي الاتجاه للانتقام برغم المرارات والحزازات، عبر صيغة للعدالة توفق بين العدالة العقابية «المساءلة» والعدالة المحرية «الاستقرار» ، وقالت ان الناس في السودان لن يصلوا إلى حل متناغم مع مطلوبات البقاء والتحرر من الاحتلال الداخلي بدون الوصول لعهد تراضٍ وطني يحقق تطلعات التحرر من الاحتلال الداخلي أسوة بالفجر العربي الجديد، ويكون بديلا للتمزق والتدويل إما بسبب حرب شاملة قاضية أو انتفاضة غزيرة الدماء تستدعي تدخلا أمميا. .
وفي المبحث الثاني «إهمال العدالة الثقافية» اشارت رباح الى أن مجموعات السودان المختلفة عانت بدرجات متفاوتة من قلة العدالة في الناحيتين: المادية والمعنوية. وقالت ان عدم الاستقرار الذي تعانيه بلادنا هو أحد أوجه المظالم المتعددة التي لم تتم مخاطبتها في الحين وبالوسيلة المطلوبة مما فاقم الجروح والغبائن كشكوى من انعدام العدالة وأدى لحمل السلاح. داعية الى التفرقة بين نوعي العدالة: الهيكلية والثقافية، ومدى الالتفات لهما «فبالرغم من أن غياب العدالة في السودان كان بشقيها الهيكلي والثقافي بدرجات متفاوتة، إلا أن اتفاقيات السلام والتخطيط للحل كان دائما ما يركز على وسائل ردم فجوة المظالم الهيكلية ويعطي المظالم الثقافية «خدمة شفاه» حسب ما يقول الفرنجة».
في المبحث الثالث «نظرة في تركيبة اللا مساواة في السودان» تتبعت رباح آليات اللا مساواة الثقافية في السودان ووجدت خطوطا بيانية مختلفة: هناك خط بياني لتحول اللا مساواة عبر الزمان. وان السمة الأبلغ للا مساواة هي تاريخية جغرافية، وان هناك مكونا عنصريا يخبو ويعلو حسب الجهات وحسب الحقب، وتقول بإطمئنان ان مكون اللا مساواة الثقافية العنصري الذي وجد بدرجات متفاوتة تم تعزيزه مؤخرا وانفجر في حروب دارفور ثم جنوب كردفان والنيل الأزرق حيث الفرز الآن بين السلطات وحملة السلاح يتم عنصريا بشكل أساسي.
في المبحث الرابع «الوعي بالمساواة وبالهجنة وبالتنوع» تقول ان سؤال التنوع لم تتم الفطنة له كثيرا، وتقول ان التخبط في الوعي بالهجنة من جهة وبالتنوع من جهة أخرى عضد اللامساواة الثقافية، التي تضافرت مع اللامساواة الهيكلية -في توزيع حصص السلطة والثروة بالتساوي- لتجعل الغبن الجهوي متفجرا في شكل حروب أقلقت مضجع البلاد. وتخلص الى أن الوعي بالهجنة وبالتنوع في الهوية كان عملية متصاعدة وربما متأخرة ولكن المشكلة الآن ليست في وعي النخب بقدر ما هي في تنزيل الوعي لخطط عملية وواقعية وإعادة الاعتبار للهم الثقافي في دولة ديمقراطية.
في المبحث الخامس «المطلوب للعبور نحو العدالة الثقافية» تشير الى ان عهد التراضي الوطني المطلوب للعبور يحتاج لمطلوبات عديدة من ضمنها عملية «مصالحة ومصارحة» تقوم بإبراء جرح الانتهاكات الحالية الدامي. وتقول ان ثقافة الاعتذار ضرورة لبناء الثقة المطلوبة للعبور. وكذلك فإن بناء الثقة الضروري للعبور يتطلب إنهاء الطاقم الثقافي القديم ذي الذهنية الاستقطابية المغلقة، وفتح الباب أمام الاعتراف بالتنوع الثقافي ثم التحول نحو التعددية الثقافية وتحدد مطلوبات بناء الثقة في: اولا، الاعتراف بالتعددية الثقافية والدينية واللغوية، وبالمواطنة أساس الحقوق والواجبات. ثانيا، إبطال خطاب القيمة الثقافي القديم واعتبار أن لكل الثقافات قيمتها الذاتية غير الخاضعة للمقارنة أو التفضيل. ثالثا، محاربة الصور النمطية والاكليشيهات المعطاة لثقافات بعينها.
في المبحث السادس «السياسات الثقافية لما بعد العبور» تقول رباح ان الفرق كل الفرق بين مجتمع وآخر ليس في الثقافات التي تحمل الطين الموروث استعلاء وهيمنة بدرجات متفاوتة، ولكن الفرق في التشريعات التي تحارب العنصرية أو تشجعها، والمناهج التعليمية، والثيمات الإعلامية السائدة، وما لم نتخذ البروتوكولات والسياسات لذلك فإننا نترك جرح التعالي الإثني واللا مساواة الثقافية ينزف.
ثم تقدم مقترحا لميثاق ثقافي ليشكل نواة للتداول حول السياسات الثقافية المطلوبة يحتوي على اثني عشر بندا منها ان السودان وطن متعدد الأديان والثقافات والإثنيات. المجموعات الوطنية السودانية الدينية، والثقافية، والإثنية، تعترف ببعضها بعضا وتمارس هويتها الثقافية بحرية على أن تلتزم بأمرين: الأول: عدم المساس بحق المواطنة حقا يتساوى فيه الجميع. الثاني: التعايش مع حقوق الآخرين وعدم السعي لتحقيق امتيازات على حسابها. وان تأخذ برامج البلاد التنموية، والتعليمية والإعلامية، في حسبانها التنوع الثقافي السوداني، وتسعى للتعبير المتوازن عنه، وتسعى لتمكين الثقافات السودانية من التطور، ولإشراك كافة الجماعات الإثنية والثقافية والجهوية والدينية وحماية حقوقها ومصالحها، والاهتمام بها في السياسات التعليمية والإعلامية والتنموية واللغوية وفي السياسات العامة مثل تمليك الأراضي. وتشجيع التسامح الديني الذي يقوم على الحسنى ويرفض الإكراه، وإجراء حوارات بين الأديان لتحديد المعاني المشتركة بين الأديان الإبراهيمية. كذلك تحديد القيم الأفريقية التي تؤسس علاقات خلقية بين الغيب والإنسان، بين البشر والطبيعة، بين العقلاني والفطري، وبين الأجيال الحاضرة والماضية.. لتدخل في تيار اليقظة الروحية والخلقية في السودان. وصك قوانين لمحاربة الاستعلاء الثقافي والعنصري والديني والنوعي -باستحداث عقوبات شديدة على الجرائم التي يحركها الاستعلاء الثقافي أو العنصري أو الديني أو النوعي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.