تزايدت الفرص أمام العقول السودانية أن تشع باضاءاتها في الطريق الطويل الممهد لبناء كيان سوداني مقبول باللامركزية الفيدرالية والديمقراطية، وستظل تفاصيل الافكار التي تلقي المزيد من الاضواء على أساليب السير في طريق الحل، بمداخل وقيم متنوعة ضرورة وواجباً بحق الوطن، وهي بذلك ليست نافلة أو فرض كفاية.. بهذه الرؤية تابعت من على صحيفة الصحافة الملخصات التي ظلت تصل من فيصل حضرة بالدوحة كمساهمات من المشاركين في المائدة المستديرة التي دعا لها المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات حول (الأزمة الوطنية: الأبعاد والخسائر) و(المثقف والأزمة الوطنية وسيناريوهات المخارج المحتملة ودراسة السياسات). لقد سعدت أي وجدت نفسي متفقاً مع الخلاصة التي وصل اليها المشاركون بأن وقف الحرب هو المدخل الرئيسي لحل الأزمة الراهنة، على الرغم من أن الأوراق لم تقدم اجابات كاملة على اسئلة من بينها: كيف يتم وقف الحرب؟ ومن يتنازل من أجل أن تتوقف الحرب؟! كيف تتم المساومة التاريخية التي طالما ظل مؤمنا بها عدد من المشاركين؟!. على صعيد آخر شهدت قاعة مؤتمرات مجلس تطوير وترقية اللغات القومية بالخرطوم مؤخراً ندوة بحضور معرفي واسع التنوع، حول خريطة اللغات السودانية، حيث رأست الندوة د.توحيدة عثمان حضرة، وقد استمرت الندوة لأكثر من ثلاث ساعات شرفها بالخطاب مصطفى تيراب وزير الدولة للثقافة. كان المتحدثان ب.الأمين أبو منقة مدير معهد الدراسات الأفريقية الآسيوية سابقاً، وب.كمال محمد جاه الله، وقد تولى التعقيب على ورقتيهما ب.سيد حامد حريز ود.أحمد الصادق، ثم شارك بالمداخلات حضور الندوة. لقد تمكن المحاضران من تقديم أطروحة معرفية متكاملة، قدم لها أبو منقة بالتمييز ما بين اللغة واللهجة، حيث تأكد أن السودان يتمتع بأكثر من ستين لغة قومية بلهجاتها بعد استقلال جنوب السودان بأكثر من أربعين من اللغات السودانية. من بين اللغات السودانية فان اللغة النوبية أضحت هي لغة التخاطب في السودان بقوة دفع ذاتي، وان أقصى ما تحتاج اليه لتساهم في التكامل اللغوي في السودان، ان تنتهج الدولة سياسات لغوية حكيمة وإدارة التنوع اللغوي والثقافي بأساليب رشيدة، أو قل بضرورة إبعاد حقل اللغات عموماً من المزايدات السياسية والجهويات الضيقة، إذ أن اللغة أية لغة يجب الا تستخدم بذاتها سلماً للصعود على أكتاف الآخرين. بعد نقاش طويل ومستنير، وبعد التداول في كل المحاذير والتحفظات التقت الآراء مع خلاصات المتحدثين التي اكدت انه برغم استقلال جنوب السودان، الا ان التنوع لم يغادر السودان شبراً، على ذلك فإنه من الخير لبلادنا أن تتعظ من تجارب الآخرين بما في ذلك الصومال التي غرقت في القبلية فأضاعت الانتماء الأوسع لعالم الاسلام، وكما علينا التعلم من تجارب الآخرين مثل الهند التي أحسنت إدارة التعامل مع اكثر من مئتي لغة من خلال اللا مركزية والديمقراطية. لعل المنبرين الفكريين، أبرزا ان ثمة جيل جديد من المفكرين والناشطين الثقافيين والسياسيين والمهنيين، أخذوا يتطلعون بمسؤولية أرفع الى ضرورة إغلاق سكك الهلاك السائدة، حيث أن ندوة مجلس تطوير اللغات السودانية أكدت أن نعمة السودان في التنوع، أما المائدة المستديرة بالدوحة فقد أكدت على ضرورة مراجعة منظومة المنتج للعقل السياسي ما بعد الاستقلال بوسائل أكثر جدية. لعل الميزة النوعية في مائدة الدوحة ان معظم المشاركين ينتمون الى اقليم ثقافي مشترك، استفاد في قيادته المركزية للسودان في النظم الشمولية والديمقراطية من كل الاطروحات العقائدية والفكرية والسياسية التي وفدت من (أرض الكنانة) ومجمل العالم العربي. عندما حاولت بعض فصائل الاقليم الذي عرف لدى بعض المؤرخين السودانيين المحدثين باقليم حوض وادي النيل الاوسط، عندما حاولت أن تتخذ من الاسلام رافعاً مطلقاً لمقام المؤمنين بنظرية الصفوة الاقليمية التي طالما أحسن التعبير عنها المشاركون في مائدة الدوحة، لم يسقط القناع عن المتدثرين بشعارات دينية للدنيا، انما سقط كل التاريخ الصفوي الذي يتمثل في امتلاك مفاصل الدولة السودانية ورهنها للصفوة المعرفية بعد الاستقلال. ان النقد العاصف للتجربة الوطنية السودانية التي تولت قيادتها تاريخيا صفوة الاقليم، وقد حاول بعضهم تماهيه في (مثلث حمدي)، يأتي دليل صحوة وعافية لمفكري ومثقفي هذا الجزء من السودان، وما ورد في ورقة النور حمد من تحذير بالوسع أخذه بعين الاعتبار حين قال (اما ان ننسف تصوراتنا وأساليبنا القديمة واما الخراب الذي لا يبقي ولا يذر). الحق لقد توقفت لدى ورقة مطرف صديق بعض وقت خاصة انه أقر أن (السودان الحديث لم يتشكل بعد)، وهو ضمن المجموعة التي رأت نفسها أنها (خيار من خيار)، ورأى في تجربته تلك كيف أن الصفوية التي عاشها من خلال تجربة (الإسلام السياسي) أعطته حق تأييد محاولات اخضاع الآخر الوطني بكل الوسائل، بما في ذلك نقل النزاع المسلح الى الافخاذ القبلية وكانت دهشتي واسعة عندما علمت ان احد قيادات الصفوة المزعومة، يقول بجرأة يحسد عليها ان (كل السلاح الذي استخدم في نزاع دارفور، ولدى كل الاطراف هو سلاح تم شراؤه من دافعي الضرائب وتم تعميمه على نحو انتقائي). قدم مطرف إذا ما تجاوز الماضي بالعفو لذاته، سؤالين جوهريين وقد جاءا في وقت متأخر نسبياً، هل السودان يعيش أزمة؟ أم هي مخاض لميلاد جديد؟ والسؤال الثاني هل من امكانية للتوافق على ثوابت؟ لقد توقفت لدى افادات مطرف لأنه مايزال راغباً في ان تظل القيادة أبد الدهر في صفوة اقليم حوض وادي النيل الأوسط، التي تحكم بشعارات تتداعى يومياً، ومعها تتداعى وتنهار النظم الاقتصادية الاجتماعية. اسائل نفسي عما إذا كان مطرف حقيقة يتطلع الى حل؟ او على الأوفق يريد حلاً مع من؟ انه مصمم على التمسك بما هو قائم بما في ذلك المركزية في مستوياتها الفكرية والأمنية، ولا يبدو متفائلاً بفتح المجال لكل السودانيين ان يساهموا في اعادة البناء، انه في أحسن الحالات من خلال أطروحته يسعى الى التراضي مع متحدثيه في المائدة لاستمرار الأوضاع ذاتها على ما هي عليه من نزاعات للحصول على مزيد من الفرص للتباهي بالذات واخضاع الآخرين بفرضية استمرار النزاع مهما كانت التكلفة. إن ما قدمته ورقة مطرف اجتهاد ودعوة الى تطبيع الأحوال الراهنة باعتبار ان السودان جزء من عالم في طور التكوين، على أنه يمكن اصلاح الحال بقبول التنوع الثقافي والديني والعرقي والفكري والسياسي، وبالتداول السلمي للسلطة، واقرار المواطنة كأساس للحقوق والواجبات وان يطلع السودانيون الى أن الاهلية هي المعيار الوحيد لتولي الوظيفة العامة، وان تعلو قيم الوطن على ما سواها، وان اللا مركزية والفيدرالية بالقسمة العادلة للثروة والسلطة فتح الطريق لمقاصد الخير كما هو الحال في التجربة الالمانية والسويسرية. يبدو أن هناك بعداً شاسعاً ما بين ورقة الاساس التي قدمها مطرف والواقع السوداني، فهو لم يذكر أي آليات ستستخدم في التحول الى خياراته؟ او ما ستكون انتماءاته الجديدة اذا ما قبل السودانيون بخيارات أخرى؟ هل يكتفي بالانكار عليهم الطريقة المثلى التي اختاروها؟ ثم من هم شركاؤه للتحول الدستوري والسياسي. الحق انها مقترحات لا تعنى شيئاً لغير قائليها ومروجيها، اما الأوراق فلا أحد يختلف معها، إذ أنها صبت جام غضبها على الذات الصفوية، دون ان تجرؤ باعلان أي تعهد لتقويمه او ترويضه او جعله أكثر تواضعاً، او حتى كيف ندرأ الانهيار للعملية السلمية في السودان. لقد كانت المائدة بتقديري نوعا من (طق الحنك) أبرزت القدرات الشخصية للمساهمين، على أن ذلك في حد ذاته بداية ضرورية لاخراج التجربة الوطنية من قمقم القداسة!! [email protected]