إدارة مرور ولاية نهر النيل تنظم حركة سير المركبات بمحلية عطبرة    اللاعبين الأعلى دخلًا بالعالم.. من جاء في القائمة؟    جبريل : مرحباً بأموال الإستثمار الاجنبي في قطاع الصناعة بالسودان    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    بعد رحلة شاقة "بورتسودان.. الدوحة ثم الرباط ونهاية بالخميسات"..بعثة منتخب الشباب تحط رحالها في منتجع ضاية الرومي بالخميسات    على هامش مشاركته في عمومية الفيفا ببانكوك..وفد الاتحاد السوداني ينخرط في اجتماعات متواصلة مع مكاتب الفيفا    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    شاهد بالفيديو.. الرجل السودني الذي ظهر في مقطع مع الراقصة آية أفرو وهو يتغزل فيها يشكو من سخرية الجمهور : (ما تعرضت له من هجوم لم يتعرض له أهل بغداد في زمن التتار)    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان أحمد محمد عوض يتغزل في الحسناء المصرية العاشقة للفن السوداني (زولتنا وحبيبتنا وبنحبها جداً) وساخرون: (انبراش قدام النور والجمهور)    الخارجية تنفي تصريحا بعدم منحها تأشيرة للمبعوث    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    مناوي: وصلتنا اخبار أكيدة ان قيادة مليشات الدعم السريع قامت بإطلاق استنفار جديد لاجتياح الفاشر ونهبها    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا للمرة ال15 في تاريخه على حساب أتالانتا    مانشستر يونايتد يهزم نيوكاسل ليعزز آماله في التأهل لبطولة أوروبية    عثمان ميرغني يكتب: السودان… العودة المنتظرة    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    بعد حريق.. هبوط اضطراري لطائرة ركاب متجهة إلى السعودية    نهضة بركان من صنع نجومية لفلوران!!؟؟    واشنطن تعلن فرض عقوبات على قائدين بالدعم السريع.. من هما؟    د. الشفيع خضر سعيد يكتب: لابد من تفعيل آليات وقف القتال في السودان    الكشف عن شرط مورينيو للتدريب في السعودية    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    رسميا.. كأس العرب في قطر    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    عالم آثار: التاريخ والعلم لم يثبتا أن الله كلم موسى في سيناء    "بسبب تزايد خطف النساء".. دعوى قضائية لإلغاء ترخيص شركتي "أوبر" و"كريم" في مصر    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انتخابات تشاد.. صاحب المركز الثاني يطعن على النتائج    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    روضة الحاج: فأنا أحبكَ سيَّدي مذ لم أكُنْ حُبَّاً تخلَّلَ فيَّ كلَّ خليةٍ مذ كنتُ حتى ساعتي يتخلَّلُ!    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«انتصار» حزب وهزيمة وطن!!
على إيقاع مارشات الجنرال غريشن في السودان:
نشر في الصحافة يوم 17 - 04 - 2010

كان لي وطن ابحث فيه عن حزب سياسي لأسهم عبره مع الآخرين في نهضته وارتقائه والحفاظ على كيانه موحداً، ونسيجه الاجتماعي مترابطاً، وحدوده آمنة، حزب يستوعب آمال وطموحات جيل من السودانيين أفنوا أعمارهم في حلقات مفرغة من اليأس والأمل، حزب ينتصر للوطن لا عليه، يعلي من شأنه ولا يعلو عليه، يتصالح مع مكوناته ولا يهدمها.
لم يسعفني الوقت، ولم تمهلني الأحداث الجسام وقتاً إضافياً لتحقيق حلم أن أنتمي إلى وطن، فقد اختطفه الأشرار لأنفسهم وتركونا نلعق الأسى ومرارات الظلم على هامشه، وبحساب الزمن لم يتبقَ لنا شئ، وما هي إلا بضعة أيام أبدأ فيها أنا وغيري رحلة جديدة ومضنية وأشد رهقاً ولكن هذه المرة بحثاً عن بديل لوطن يتسلل من بين أيدينا الآن، يضيع ويتلاشى، ويتبعثر، ويتفتت بعد أن تفرقت كلمتنا، وتداعت علينا الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها ليس بسبب قلتنا ونحن كثر ، لكننا غثاء كغثاء السيل!!. وها هي العصا الأمريكية تلوح في الأفق تسوقنا كما القطيع نحو الانفصال على إيقاع «انتخابات» نجريها كيفما اتفق، بعد أن نزع الله من صدورهم المهابة منا، وقذف في قلوبنا الوهن.. وبعد أن تملكتنا حب الدنيا (والسلطة) وكراهية الموت!!
«هي لله هي لله لا للسلطة ولا للجاه».. ليت لصوص الأوطان الذين تغريهم «الجزرة» الأمريكية الآن، ويرضي غرورهم تصريحات الجنرال غرايشن، صدقوا وعدهم ، إذن لكان الأمر مختلفاً ولما أعمى بريق السلطة بصيرتهم وسلب عقولهم وجفف منابع حب الوطن الواحد في قلوبهم واستبدلوه ب»مثلث» صغير رسمه باحث ثروة وسلطة بليل!!.. «خلا الجو ل»إمبراطورية الشر» الحالمة بشرق أوسط جديد تعثرت بدايته في العراق، وتدحرجت خطاه في أفغانستان، لتبيض وتصفر في بلادنا التي مزقتها الحروب في الجنوب وفي دارفور، وبعدها في الشرق. وجد العم سام في أعداء الأمس أصدقاء اليوم، ضالته ليرقص طرباً على مذبح وطن وهلاك أمة، وهو الذي دأب على تغيير حلفائه على قاعدة: «ليس لنا أصدقاء دائمون ولا أعداء دائمون ولكن مصالح دائمة»، وجد في نفر يعشقون السلطة حب أبنائهم أو أشد، مطية لتحقيق غاياته الشريرة، وربما رأت أمريكا الحالمة، أن نهاية التاريخ يبدأ من هناك، من الخرطوم حيث ملتقى النيلين ونهر الحياة الذي يجب أن يجف حتى يتوقف النبض في عروق ظلت تنبض حياة منذ آلاف السنين!!.. وحيث تموت أحلامنا في وطن خير ديمقراطي، تكون بداية الزخم الجديد للشرق الأوسط الجديد فوداعاً للوطن الذي كان ووداعاً للحلم الذي ظل عالقاً بين سماء الفكرة وهاوية السكرة !!
كان لي وطن يقول عنه «هؤلاء» إنهم زينوه بالتنمية ومشروعاتها، وأقاموا في طولها وعرضها الطرق والجسور، ونعرف نحن أن إنسانها أصبح أكثر فقراً وأشد بؤساً وأقل قدرة على حماية «أرضه» التي أخرجت أثقالها واهتزت وربت وطمع فيها الطامعون المحليون والمتحالفون معهم من الخارج، وما بال صدى ذلك اللحن القديم «وطن الجدود نفديك بالأرواح نجود ..»، يخفت ويتلاشى، ويذهب بعيداً شأنه شأن كل شئ جميل في حياتنا!!
ما نعلمه أن ثمن التنمية المزعومة كان باهظاً ومكلفاً بحجم وطن، يكفي أن حصاده هذا الشراب المر من التفتت والضياع.. وفات على إنسان بلادي أن «التنمية» المفترى عليها التي يلوح به الباحثون عن سلطة سرمدية فوق ما تبقى من وطن، ويتقربون من خلالها ل»صوته» أذى ومنة، فات عليه أنها جاءت خصماً من فاتورة تعليم مجاني مستحق لأبنائه، وفاتورة علاج مستحق له ولأفراد أسرته، وسكن مستحق وخدمات عديدة، تمثل جميعها مستحقات العقد الاجتماعي بين الشعب والسلطة منذ عهد حمورابي، فضلاً عن رسوم وجبايات أثقلت كاهله!!
كان لي وطن أصبح الآن مثقلاً بالديون المالية، وأصبح مثقلاً بمستحقات نيفاشا، وأصبح محاصراً من الجنرال غريشن، ومطالباً بدفع ثمن الصفقات المعلنة والسرية التي يبرمها اللصوص معه ومع غيره، وأصبح مكبلاً ب «الاستفتاء» واستحقاقاته، وما يترتب على ذلك من طلاق مدني محتوم بين الجنوب العزيز والشمال، هذا في وقت تشهد عواصم مجاورة تحركات مكوكية لاستنساخ نيفاشا جديدة وتقرير مصير جديد يعيد إنتاج نفس السيناريو(عاجلاً أم آجلاً) في دارفور وربما غيرها من ولايات السودان.. فهل يتبقى لنا إذن شئ من وطن؟!!
كان لي وطن شبع شمولية وتلاحقه الآن لعنة الانتخابات، ليدخل ذروة أزمته مع تدخل أمريكي سافر يسابق الزمن لتفتيته، وهاهو مبعوث العناية الأمريكية للمؤتمر الوطني الجنرال سكوت غريشن يقطع قول كل خطيب يتباهى باستقلال القرار الوطني ويكيل الاتهامات للآخرين بالخضوع والخنوع للأجنبي(قال أيه من لا يملك قوته لا يملك قراره) ليقرر لنا الجنرال المغرور أن: «الانتخابات ستجرى في موعدها دون أي تأجيل»!!. ويقصد به الانتخابات السودانية وليس الأمريكية، وبقدر اعتزازنا بالصوت العالي الذي سمعناه قبل أيام برفض تدخل أية جهة لتحديد موعد الانتخابات باعتباره قراراً وطنياً خالصاً حتى كدنا أن نصدقه!!، تلفنا الحيرة والدهشة الآن إزاء هذا الصمت في الوقت الذي تلوح فيه العصا الأمريكية في وجه مواطنينا وترغمهم للدخول في لجة هذه الانتخابات وحظيرتها القهرية شاءوا أم أبوا!!. سكت المتكلمون ولم يتكلم الصامتون وتحت وطأة الإرهاب الأمريكي سارع «المقاطعون» إلى لملمة أطرافهم للعودة إلى مضمار السباق وسط دهشة «الجمهور»، وتأكد لنا أن الوطن الشامخ يذبح في صمت!!.
أمريكا دنا عذابك:
كان لي وطن يحذرنا فيه حكامه من أمريكا ومكايدها، وهم أسعد الناس بها الآن بعد أن دنا عذابنا بها، لكن الدهشة تتبدد لو علمنا أن ما يقدمه الصديق سام هو نظير «يد» تعاون أمني ومكافحة مشتركة ل»الإرهاب» سلفت، و «دين» تسليم لإرهابيين مستحق، من «الإنقاذ» عليه!!..فمن سيد من يا ترى أمريكا أم نحن؟ ومن المسود؟.. أعداء الأمس أم أصدقاء اليوم؟!!..
في بلادي وجد الجنرال غريشن(الذي يذكرنا بالسيد برايمر في العراق)، على ما يبدو مناخاً مواتياً للعربدة السياسية، فهو لا يبالي في سعيه الدؤوب نحو «الاستفتاء» بالوثائق ولا بالأدلة القطعية التي تقدمها المعارضة حول ممارسات تؤكد استغلال الحزب الحاكم لموارد الدولة وإمكاناتها المادية والأمنية لتزوير الانتخابات، ولا يرى في عدوهم اللدود السابق(العضو الدائم في قائمة الإرهاب) غير سلطة نزيهة تتجه لإرساء تحول ديمقراطي حقيقي يرضي تطلعات بلاده!!. والحزب الحاكم جاهز للتوقيع على بياض مع أعداء الأمس أصدقاء اليوم ل»شرعنة» السلطة الانقلابية، والمد الانفصالي في تصاعد داخل الحركة الشعبية، وأحزاب المعارضة التي أنهكها الصراع المرير مع الشمولية طيلة عقدين من الزمان تمزقاً وتشتتاً وضعفاً مالياً، ما زالت تتحسس طريقها نحو جماهيرها، بينما ألجمت «الجزرة» الأمريكية أكبر حلفائها»الحركة الشعبية»، ويلف الصمت المدقع كل العرب!!
في هكذا مناخ لم يكن لدى المستر غريشن أي وقت «يهدره» للاستماع إلى أي كلام غير إجراء الانتخابات «في موعدها» بل كاد أن يضيف لها قول الرئيس البشير «ولن تؤجل ولا ليوم واحد» إذن لحق لنا القول انه أصبح مؤتمراً وطنياً خالصاً(لكن بسحنة أمريكية)، فالأهم عند المستر غريشن هو ما بعد هذه الانتخابات التي يجب أن تقوم ، حرة أو غير حرة، نزيهة أو غير نزيهة لا يهم، فكل الطرق حتما ستؤدي إلى «الطلاق المدني» المنتظر في واشنطن بفارغ الصبر ولك الله يا وطني!!. فسعادة الجنرال لا يهمه حتى تحذيرات المعارضة بامكانية تكرار السيناريو الإيراني أو الكيني في السودان، حيث يرى أن الانتخابات يجب أن تجري في موعدها لأنه واثق أنها ستكون (على اكبر قدر ممكن من الحرية والنزاهة)!!
هكذا إذن حصاد الإنقاذ يا وطني، فبعد أن أخذت الأرض زخرفها وظنوا أنهم مالكوها وظننا أن الديمقراطية «عائدة وراجحة»، نجد أن من يحكمون لا يأبهون بالطلاق المدني القادم، ولا يسعون لإصلاح ذات البين بين جسد سوداني وعضو منه يتداعى، ولا يشعرون بوجع المخاض الجديد في الجنوب وشهقة الانفصال، المولود غير الشرعي الذي يقترب ليدك بقايا حصون هشة من أحلام وطن واحد، فالمهم أن يبقوا سادة على ما يتبقى من وطن(مثلث حمدي)، فيما الأفق ملبدة بملامح صفقات «سرية» بين أطراف خارجية ستغض الطرف عن كافة الممارسات الفاسدة في الانتخابات وآخرون في الداخل يفرحون بسذاجة بغنيمة بخسة، لقد باعوك يا وطني بثمن بخس، فبئس البائع وبئس المشتري!!
هكذا إذن وجدت واشنطن ضالتها في بلادنا لاختبار نظرية «الفوضى الخلاقة»، بعد تعثر التجربة في العراق وأفغانستان، حيث نجح التدمير وفشلت محاولات إعادة البناء. في بلادنا يستخدم الجنرال غريشن كافة الأسلحة شاملة التدمير، وهو بكل سفور وبلا غطاء دبلوماسي يقول إن بلاده تأمل أن تمهد انتخابات الشهر الجاري السبيل إلى «طلاق مدني لا حرب أهلية»، وأن هذه الانتخابات يجب أن تجرى في موعدها حتى تتكون الهياكل الديمقراطية اللازمة لعلاج القضية الخاصة بوضع جنوب السودان الذي سيتحدد في استفتاء في يناير القادم. وهكذا فانتخابات السودان لا شأن لها برسالة أمريكا المزعومة في نشر الديمقراطية ودعم التحول الديمقراطي في دول العالم الثالث، ولا علاقة لها بما ظلت تتشدق به من تبني حقوق الإنسان..الخ، فقط استفتاء الجنوب وما يتبعه من طلاق مدني هو المهم ومن بعد ذلك فليكن الطوفان!! وبعد أن تأكدت له رغبة شريكي الحكم في السودان، وضعف الأطراف الأخرى وهامشيتها وعدم تأثيرها على مجريات الأحداث، يعلن الجنرال الأمريكي بوضوح أن الولايات المتحدة مستعدة لأي انفصال قد يسفر عنه الاستفتاء في نهاية الأمر. ويمضي الجنرال غريشن قائلاً بنشوة المنتصر: «إذا استطعنا حل القضايا العالقة فإنني اعتقد أن الاحتمالات جيدة أن يشهد الجنوب طلاقاً مدنياً لا حربا أهلية»، مشيراً إلى أن بلاده قد بدأت فعلاً تأخذ في الحسبان احتمالات انفصال الجنوب.. ويضيف: «بالنظر إلى الحقائق على الأرض فان الاحتمال كبير أن يختار الجنوب الاستقلال»، وزاد أن بلاده «تدرس كل الخيارات» بشأن كيفية مساندة جنوب السودان إذا حصل على الاستقلال في المستقبل لكنها تركز الآن على محاولة ضمان الانتقال السلمي!!.
الفوضى الخلاقة:
تتفطر قلوبنا ألماً لكابوس يقترب من أن يصبح حقيقة وقنبلة تكاد أن تنفجر فوق رؤوسنا جميعاً، فما هي هذه القنبلة «الفوضى الخلاقة» التي تختبرها واشنطن في بلادي المنكوبة؟!!
هي نظرية سياسية يقصد به خلط الأوراق في بلد ما، وقلب أوضاعها تمهيداً لإعادة تشكيل مجتمعها من جديد، وربما تحل الان لعنة النظرية الأولى للإنقاذ «إعادة صياغة الإنسان السوداني» علينا بسودان جديد لكن ليس سودان قرنق ولا سودان البشير، وإنما سودان المستعمر الجديد لإفريقيا. هذه النظرية تمثل حجر الزاوية للسياسة الأمريكية في المنطقة ولاسيما في سعيها لإيجاد الشرق الأوسط الكبير، علماً بأن هذه النظرية السياسية المستوحاة من فلسفة مكيافيللي «الغاية تبرر الوسيلة» ليست حكراً على الولايات المتحدة وحدها.
مكيافيللي المتوفى عام 1527م هو إذن أبو هذه النظرية السياسية، كما أنه عميد المدرسة التي تُعرّف السياسة بأنها: «فن الخداع والغش». وفي كتابه (الأمير) يفسر مكيافيللي نظرية الفوضى الخلاقة بالقول: (أن الشجاعة تُنتج السلم، والسلم يُنتج الراحة، والراحة يتبعها فوضى، والفوضى تؤدي إلى الخراب، ومن الفوضى والخراب ينشأ النظام، والنظام يقود إلى الشجاعة)!!. ومكيافيللي هو عميد ورائد المذهب النفعي في السياسة، وفي كتابه يقول أيضاً: «الدين خير وسيلة لتعويد الناس المفطورين على الشر للخضوع للقانون فعلى (الأمير) أن ينشر الدين، ويظهر بمظهر الورع، وهذا أفضل من أن يتصف بالأخلاق الحميدة، ومن الخير للأمير أن يتظاهر بالرحمة والتدين وحفظ الوعد والإخلاص ولكن عليه أن يكون مستعدا للاتصاف بعكسها»!!.
يقول باحثون إن مكيافيللي: (درس آثار سابقيه ودرس كتابات معاصريه، واستفاد من جمهورية أفلاطون، ومبادئ سقراط وأرسطو وكل الفيثاغورثيين، ثم إن مكيافيللي نجح في اختيار المبادئ التي تصلح لكل عصر وأوان، وهو أيضا أحسن في صياغتها في قوالب لغوية سهلة وميسورة) انتهى الاقتباس. فأرسطو مثلا نصح أهل أثينا قائلا لهم: (لابد أن تكونوا متدينين لأن في بلادكم معابد كثيرة)!!..وهذه المقولة تصلح أن تكون هي أساس استخدام الدين أيضا استخداماً نفعياً كما تشهده بلادنا حالياً!!، فقد اهتدى أرسطو بفعل قراءاته إلى أن (الربح) الاقتصادي والتجاري يقتضي التمسك بالدين!! ..إلى أي مدى يا ترى نرى روح هذه الفلسفة في واقع دولتنا السودانية اليوم التي يحكمها ميكافلليون لا يهمهم اقتطاع جزء عزيز منه مقابل أن يبقوا على سدتها ؟!!
ما يهمنا هو البحث عن ماهية ذلك الرباط الخفي الذي يجمع الدولة السودانية «الطاهرة» والإمبراطورية الأمريكية «الكافرة»!!.. فمنذ مجئ الإنقاذ ظلت الآلة الإعلامية للدولة تضخ خطاباً إعلاميا يصور لنا أن الصراع الذي تشهده الساحة السودانية في الداخل ومع الخارج هو صراع بين هوية الكفر والإيمان، بين «الشر» الذي تمثله قوى الخارج والأحزاب المنفتحة عليها، و»الخير» الذي يمثله الإنقاذ وأنصاره. لكن الواقع انه كان ولازال صراعاً في الداخل بين حزب اغتصب السلطة ليحكم بمفرده ويزيح غيره، وفي الخارج بين شعوب تزعم التحضر ونشر ثقافته وحكومة وجدت فيها تلك الشعوب مدخلاً لممارسة عادتهم القديمة لاستعمار الشعوب لكن بوجه جديد!!.
علينا أن نعترف بأن الإنقاذ نجحت في إحاطة نهجها السياسي الحقيقي بسور عظيم من الضبابية والكذب «المبرر»، ولم يكن لأحد أن يتصور مثلاً: أن العلاقة بين السودان وأمريكا ظلت «سمن على عسل» منذ أمد بعيد، حيث كانت الحكومة تنسج خيوطاً متشابكة من العلاقات مع واشنطن في الخفاء وتسعى حثيثاً لخطب ودها، فيما تشنع وتعيب على معارضيها أي شكل من أشكال العلاقة وتقول للشعب السوداني «أنهم يتحالفون مع الكفار للقضاء على إسلامكم»!!.
في وقت سابق كشفت السيدة جينداى فرايزر، مساعدة وزيرة الخارجية الأمريكية للشؤون الأفريقية السابقة ورئيسة مركز كارنيجي مِلون للسياسة الدولية، عن وجود تعاون على مستوى عالٍ، ما بين المخابرات السودانية ورصيفتها الأمريكية (السي آى إيه)، مشيرة إلى أن صلاح قوش، رئيس جهاز المخابرات السودانية السابق كان رجل أمريكا في السودان!!.. هذا الواقع يبدد أي ظن ويؤكد أن الولايات المتحدة كانت تدرك في أوج خلافها مع الخرطوم أن ثمة خيوط وقواعد ممكنة للتقارب مع نظام الجبهة الإسلامية(المؤتمر الوطني حالياً) في السودان!!. وقالت فرايزر أن السودان ومنذ قرار الولايات المتحدة ضرب أفغانستان وطلب الرئيس بوش: «إما أن تكونوا معنا أو مع الإرهاب»، أختار التعاون الكامل مع واشنطن!!.فالتوافق الحقيقي كان في النهج والفلسفة والرؤيا التي تحكم النظام وعلاقاته الخارجية «الغاية تبرر الوسيلة» فغاية الاستمرار في الحكم يبرر التنازل عن أراضي الوطن قطعة قطعة في الجنوب والشمال حتى «حلايب»!!
إن ما يثير الدهشة هو هذا الانسجام والتناغم الذي طفا إلى السطح بين واشنطن والخرطوم، على درب الفوضى الخلاقة(التفتيت) واستقواء حزب المؤتمر الوطني بالولايات المتحدة المتطلعة إلى «طلاق مدني» بين جنوب السودان وشماله، على القوى السياسية المناوئة للانتخابات «المتعجلة» وتداعياتها الحتمية. فالقضية لم تعد انتخابات وفوز وهزيمة وإنما «مصالح» محلية ضيقة وخارجية عريضة الخاسر الأكبر فيها هو شعب السودان الذي سيفقد ثلث أرضه وثلث سكانه ومعظم بتروله وسيفقد أمنه ولن يكن بمقدوره التحكم في فيروس الانقسام الذي سيضرب كل أرجائه بعد أن فقد مناعته السياسية!!.
دعونا نتوقف هنيهة عند بعض المحطات التي شكلت الطريق نحو ما يسميه الجنرال غرايشن ب»الطلاق المدني»، بدءاً بحملة صيف العبور التي يمكن اعتبارها تدشيناً ل»الفوضى الخلاقة» في جنوب السودان حيث امتدت المحرقة التي أشعلتها الحكومة آنذاك باسم «الجهاد» لتشمل كل قرى الجنوب وبعض تخومها الجغرافية، وسيق الشباب خلف (الأمير) بمظهره الورع وهدفه المعلن لنشر الدين، وانتهاء باتفاقية نيفاشا التي تهدف إلى إعادة بناء ما دمرته الحرب ولكن وفق أجندة تعكس بوضوح مآلات الحرب وحملات الجهاد ورسم خارطة جديدة لسودانين جنوبي وشمالي!!.
الشاهد أن زلزال صيف العبور وتوابعها انتهت بالوضع السوداني إلى أسوأ مما كان بالمنظور القومي وليس بمنظور الحزب الحاكم الذي ربما أرادها فوضى تنتهي إلى نفس النتائج، إعادة بناء جديد للسودان بلا جنوبه؟.. لا جديد إذن في تلاقي الميكافللية السودانية بنظيرتها الأمريكية، فالوقت ربما حان للكشف أن واقع العلاقات بين الخرطوم وواشنطن لم تكن بالسوء الذي ظل يصوره لنا الإعلام الرسمي في البلدين، فالأجندة كانت متوافقة منذ زمن بعيد على فصل جنوب السودان وهذا هو الأهم للجانبين، ولذلك فان ما نراه من تناغم وانسجام بين الجانبين حول الانتخابات له ما يبرره وليس مفاجئاً أو مثيراً للدهشة كما قد نظن!!. لذا فان إجراء انتخابات في السودان لا ترضى عنها القوى السياسية المناوئة للمؤتمر الوطني في غياب النزاهة والشفافية، وما يترتب على ذلك من تضييق على السودانيين في محاولة التوصل إلى حد أدنى من الاتفاق فيما بينهم لجعل نتائج الانتخابات مقبولة، هذا السيناريو يروق تماماً للشريكين الجديدين(بعد إزاحة الحركة الشعبية) واشنطن والخرطوم لأن ما سيترتب على ذلك من تداعيات وعدم استقرار(وهو المطلوب) قد تؤدي إلى وقوع حالة جديدة من «الفوضى الخلاقة» في الشمال ما يؤدي حتماً إلى تسريع وتيرة انفصال الجنوب والبدء في ترتيبات جديدة لتجزئة المجزأ وهو المطلوب!!.
وهكذا كان لنا وطن.. تركنا ينزف في العراء، وتركناه بلا غطاء للجنرال غريشن الصديق اللدود وهو يقول: (نحاول ضمان الانتقال السلمي، وتجاوز قضايا مثل مسألة المواطنة، وتعيين الحدود، وكيفية تقسيم الأرباح من الثروة النفطية للسودان التي ينتج جزء كبير منها في الجنوب، ولكنها تشحن إلى الخارج عبر الشمال، انه وضع يفوز فيه الجميع ذلك الذي نحاول الوصول إليه)!!. ويقصد بالجميع طبعاً الشريكين واشنطن والخرطوم وياله من فوز بطعم الهزيمة ولاسيما من ستظل لعنة الأجيال تلاحقهم بعار تقسيم السودان عبر التاريخ!!..قد يرى البعض في كل ما جرى ويجري انتصاراً لهم ، أن تستولى على سلطة بانقلاب، أن تقصي الآخرين، أن تضعفهم، أن تغري البعض للانخراط في شراكة معك، أن تجري انتخابات «تشرعن» بها وجود وتفوز وتكسب كل شئ..كل ذلك انتصار للحزب ولكنه هزيمة كبرى للوطن، انتصار سيعود حتماً وبالاً على من ظن أن بإمكانه أن يبني مجداً على أنقاض وطن!!
كان لي وطن بلا حزب، والآن أصبح لي حزب اسمه السودان أبحث له عن وطن وموطئ قدم!!
كاتب سوداني مقيم بالسعودية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.