غنت المرأة السودانية بعفوية طاغية للموظف الميرى في أيام عصره الذهبى إبان الكشف الموحد لترقيات الخدمة العامة وتعيينات الموظفين وتنقلات المفتشين، وبرع جيل حواء الطقطاقة في تأليف جميل الغناء من الغزل المباح في عربية الموظف المرتاح وعطره الفواح ونعيمه المنداح .. وفى حقبة بعد الاستقلال وسودنة الوظيفة كان ترموميتر بحبوحة العيش الوظيفى في اعلى معدلاته الخريفية التى بدأت في التراجع مع سماع (مارشات) إنقلاب مايو1969 وهبوب رياح كشوفات التطهير واجب وطنى ذلك الهتاف الذى سوق له المايويون بإصرار فلفوا حبل الاعدام حول عنق الوظيفة الميرى و ظل الحبل حولها مطوقا حتى كسره (كع ) فتوالت الاحداث عاصفة بتعاقب الايام والليالى حتى قبرت (بضم القاف ) الجثة مأسوفا عليها في مقابر (الإنقاذ)، تلك الثورة التى تعاملت مع مسرح الوظيفة الميرى بأقصى درجات الكنس والتنظيف بالسلك (الدراش) مستخدمة صابون التمكين ومتكئة على عصا سابقة مايو التى أشعلت نار الحريق على معبد الخدمة العامة ..فكانت مذبحة الصالح العام في بواكير 1990، والتى إكتشفت الحكومة مؤخرا أن مسلسل الصالح العام قد تم عرضه بدون أسس ومعاييرمهنية فراجعت قوائم التطهير وتراجعت بخطوات متثاقلة عن المشى في سكة الخطر، ولكن فى توقيت كان متأخرا كثيرا لدرجة لم تفلح معها كل محاولات التشفع والربت على الاكتاف في إزالة ما علق بالنفوس من غبن وصدأ سيظل خصما على رصيدنا في التربية الوطنية مالم يحدث ترميم كامل لمنظومة قوانين الخدمة العامة في السودان بالقدر الذى يصون عرضها ويحفظ عافيتها ويحصنها ضد أمراض وحماقات الساسة.. وزاد الطين بِلة قيام الحكم الإقليمى(1980) الذى مهد لقبض الصيد الجريح النافر ثم تلاه الحكم الفيدرالى (1993) الذى مزق أوصال صيد الخدمة المعلول ووزع كيمان الذبيحة على الولايات التى لم تتوانَ لحظة في شواء نصيبها من لحم الخدمة العامة وتوزيع أطباق المائدة على الاقارب والمعارف والمرضى عنهم تمكينا ومحسوبية دون الالتفات ولو بعين دامعة الى مصير الوطن الضحية الذى بفقده لهيبة الخدمة العامة الفاعلة أصبح كالمعاق جسديا لايقوى على حمل نفسه إلا بروافع من حزم الحديد والعصى فى حركة محدودة وبلا فائدة رغم الكم الهائل من مخرجات الورش والسمنارات والمؤتمرات التى قامت لاحتواء ظاهرة التدهور المريع، ولكن هيهات هيهات بقادرين على ان يلحقوا أثره على حد شاعرية ود الكيلانى.. فكل المفاكرات التى تمت كانت تناقش النتائج وتحوم حول الحمى عندما تقترب من فوهة بركان الاسباب.. وتكتفى جهات الاختصاص في الدولة بشفونية الاعلام لتكتوى بمحور نار سداد فاتورة التكاليف خصما على عافية الوطن وسلامة هيكل خدمته المتساقط الاطراف .. وفى شكل متوالية هندسية كان تراجع خطوات الخدمة العامة بالسودان حتى وصلت الى قاع الانهيار فباتت شماعة لكل إخفاقات منظومة القطاع العام في الدولة ، فنالت حظا وافرا من القدح والذم والسخرية والتندر وأؤكد على ذلك بالطرفة التى قالت:- بأن هناك حبوبة عجوز كانت تعيش وسط أفراد الاسرة بربع ذاكرة وفى هذا الاثناء تم عقد قران إحدى حسناوات البيت دون أن تواكب العجوز تمرحل مراسم الزواج، وفى يوم الدخلة إستفزت حركة الناس ذاكرتها الممسوحة فسألت عن الحدث فخبروها بالحاصل .وفى فضول كهولى أصرت أن تعرف طبيعة عمل العريس فقالوا لها موظف قدر حالو فتبسمت في سخرية جاحظة وقالت :- يابتى إصبرى بيهو لمن سيد الرزق إجى.. وفى هذه النكتة مخزون هائل من درجة إستخفاف المجتمع بالوظيفة العامة التى اصبح مرتبها تتراجع قيمته يوميا لدرجة إنو لو دخل القش ما بقول كش من خفة وزنه وتدنى قوته الشرائية ويستثنى من ذلك طبعا أصحاب الحظوة والمقربين الذين يقعون تحت ظل مطر السلطة بالاصالة أو بالمصاهرة على حد تعبير المثل الذى يقول:- أبقى نسيب ماتبقى ودعم .. والنسيب عين شمس !! وعلى نسق إنهيار جرف الخدمة العامة إنهارت كل سقوف الكرامة التى يتوهم معاشيو الخدمة العامة العيش تحتها لإتقاء حر الحرمان وزمهرير الفاقة وسقطت كل الشعارات التى كانت ترفرف فوق سقوف سارية صندوق المعاشات فذاق شريحة هؤلاء المدنيين كل ألوان المماطلة والتسويف والمراوغة في الحصول على إستحقاقاتهم شهر بشهر وخاصة في الولايات البعيدة مثل جنوب دارفور(بحكم المتابعة للاحداث )التى سقطت فيها كل أقنعة السلطات المختصة في مواجهة أصحاب الحق، ويؤكد ذلك تراكم مديونية مستحقات المعاشيين بمحلية برام (التى هاتفنى أحد معاشييها ) وخاصة شريحة المعلمين الذين عاقبهم مكر الايام مقابل جميل عطائهم وتفانيهم في أداء واجبهم في محاربة الجهل والامية ..وكأنى الآن اسمع صرخاتهم وأنين معاناتهم ولكنهم صامدون صابرون لا يسألون الناس إلحافا والسؤال لمتين يهون عذاب هؤلاء ؟؟ ننتظر الاجابة من رب السموات والاراضين وهو نعم المولى ونعم النصير ..وللاسف إنتقلت أمراض جهاز الخدمة العامة الفاقد للمناعة إلى الجهة المناط بها توفيق أوضاعهم فأصبح الموظف العام في الحالتين (موظف ومعاشى ) هو الضايع .. والامر المحير أن الموظف العام هو الذى يصمم قوانين الخدمة وهو الذى يشرع للمعاش وفى مشهد لايخلو من الطرافة نجد نفس الموظف هو الجلاد وهو الضحية وهذا هو مصدر الدهشة والغرابة والحيرة والارتباك، ونتيجة لكل ذلك يسقط الموظف العام في شر اعماله التى تجعله مخدرا تحت بنج الوظيفة المتخشبة المفاصل فيتشبث بخيوط الوهم والعمر يجرى وبدون مقدمات نفسية ومؤهلات مادية مدخرة يجد نفسه مركولا بجزمة تقادم العمر الى خارج مربع المكتب وبعيدا عن كرسى الوظيفة..فيصاب بالدوران ويسقط في دوامة الحنين الى الماضى فيعزل نفسه من المجتمع حوله وفى نفس لحظة التوهان هذه يفرمن حوله أصدقاء الكرسى والانس الجميل ..ويبدأ في مطاردة سراب المعاش ولايلحق بمايحسبه ماء فيقتله ظمأ الغيظ ويموت إجتماعيا ويتصحر ماديا وربما يصاب بالجنون والجنون فنون وسر معالجة جنون الخدمة في تمتين أعمدة قوانينها وحمايتها من رياح السياسة التى متى ماهبت فالخدمة العامة هى الحوش الذى يسقط (ويشلع) ولابد من قانون فاعل ونافذ للمعاشات يحفظ للمتقاعدين آدميتهم ثم حقوقهم حتى لايندموا على ماقدموه فيحبطوا. وصدقونى إن عدوى الاحباط تنتقل عبر عدة وسائط والمجتمع نفسه أولها واسرعها وأخطرها ..فلابد من تحصين أصحاب العطاء ضد الاحباط بتطبيق قول المصطفى (صلعم) أعطِ الاجير حقه قبل أن يجف عرقه ولنا في رسول الله أسوة حسنة.. وما تمسك معاشيى القوات النظامية بشرف المهنة حتى بعد التقاعد إلا لأنهم قد تم تحصينهم ضد الإحباط بجرعة عجالة (بضم العين ) سداد حقوقهم على الدولة وبالتالى إكتسبوا المناعة ضد سخرية المجتمع الذى ينتظر خدمة من الدولة وهى تقف على ساقين لاثالث لهما ( الخدمة المدنية والخدمة العسكرية ) فالتوازن مطلوب حتى لايسقط جلباب هيبة الدولة فتنكشف عورة الوطن الكريم .. وما هو المانع من قيام بنك او مؤسسة تمويلية تستثمر في إستقطاعات العاملين وتختص برعاية حقوق المعاشيين وهكذا يتم تدوير رأس المال المستقطع من العاملين وتوظيفه..على أن يقتصر دور صندوق المعاشات في ترتيب الملفات وجدولة السداد بالتنسيق مع وزارة المالية (المتهم الاول في حكاية أموال المعاشيين ) و هذه المؤسسة (المقترحة) و نطرح الفكرة للعصف الذهنى وتلاقح الأفكارحولها..فهيا على الفلاح .. ودامت للوطن هيبته وسترت عورته آمييين يارب!! [email protected]