« اللى كلّف ما متش » هذه الإستعارة الذكية من المثل الشعبى المصرى الشهير «اللى خلف ما متش » تقف شاهداً على عبقرية الحس الفكاهى عند الشعب المصرى ، وعلى قدرته فى صياغة السخرية الحراقة وتوظيفها فى المسرح السياسى ، فهم يتندرون على كون المرشح الرئاسى أحمد شفيق ، والذى سبق وكلفه الرئيس المخلوع مبارك برئاسة الوزراء ، إنما يمثل إمتداداً طبيعياً لنظام مبارك ، تماماً كإمتداد الأب فى أبنائه . وقد جاء حكم المحكمة الدستورية أول أمس ليؤكد هذا الهاجس ، فقد أفتت المحكمة بعدم دستورية قانون العزل السياسى مما يعنى بقاء شفيق فى السباق الرئاسى ، وفوق هذا قضى الحكم ببطلان مجلس الشعب المنتخب والذى يسيطر عليه الإسلاميون مما عده كثير من المراقبين تتويجاً مبكراً لشفيق . وبموجب هذا الحكم إسترد المجلس العسكرى الحاكم فى مصر سلطة التشريع من مجلس الشعب ومعها «فوق البيعة » سلطة تكوين الجمعية التأسيسية المناط بها وضع المسودة النهائية للدستور قبل عرضها على الشعب فى إستفتاء عام . إن الوضع فى مصر بات أشبه بلعبة الكراسى الموسيقية أو ربما هو «سيرك» تديره أياد متنفذه بإحترافية متقنة ، ومن الواضح أن المجلس العسكرى أصبح يملك سنداً خفياً من قوى تجيد اللعب السياسى وتجيد التخطيط ، فهو ينحنى أمام عواصف الشارع ومليونياته وجمعه المتعددة الأسماء ثم يعود لينتصب ويلتهم كل شعارات الشارع . حدث هذا عندما امتثل لجماهير الثورة وقبل بعصام شرف «مرشح الميدان » رئيساً للوزراء ثم راح يكبل أياديه حتى زهدت الجماهير فى مرشحها ففرض عليها الجنزورى فى رئاسة الوزراء . كذلك فرض المجلس العسكرى رؤيته لإنتخابات الرئاسة حين منح اللجنة العليا للإنتخابات حقوقاً إلهية وعصم قراراتها من أى إستئناف قضائى مما جعلها تتحكم فى العملية الإنتخابية بفرمانات غير قابلة للمراجعة ، وكان المجلس قد ساير أهواء الجماهير فى قانون العزل السياسى إلا أنه أوعز للجنة الإنتخابات بعدم الإعتداد به وعدم عزل شفيق ، وها هى المحكمة الدستورية تمضى معه فى ذات الإتجاه وتبقى شفيق فى سباق الرئاسة وتحل المجلس المنتخب وتعيد الى حجره السلطة التشريعية . من المؤكد أن شفيق عقب القرارات الأخيرة بات أقرب لكرسى الرئاسة من أى وقت مضى ، ولقد تضافرت قوى كثيرة لإنجاح هذا التوجه واعتماده .. قوى تتوزع ما بين النخب النافذة فى النظام السابق بكل ما تملكه من خبرات سياسية وأموال ، بجانب المؤسسة العسكرية التى تتوجس من الإنعطافات السياسية الحادة والتى تهدد مكتسباتها ونفوذها المتوارث والمتراكم منذ يوليو 52 ، وكذلك الليبراليون الذين يتوجسون هم أيضاً من الإسلاميين وسيناريو الدولة الدينية . هذه القوى السياسية ساقت الفترة الانتخابية عبر دخان الغموض والخداع وتحالفت فيما بينها لإنتاج الخيار الصعب ... خيار شفيق أو الأخوان ، وكأنها توظف الفزع من الأخوان كوقود إضافى يدفع بشفيق نحو الرئاسة . ان تاريخ الثورات الشعبية منذ عهد الإمام على بن أبى طالب وإبنه الإمام الحسين رضى الله عنهما يشهد بأن قوى الثورة المضادة هى الأكثر حذقاً وبراعة فى الإلتفاف على أهداف الثورة بينما ينشغل الثوار بالهتاف والصراع والتكالب على الإستئثار بالسلطة ... ولعل هذا ما حدث فى مصر .