لقد سافرت الأسبوع الماضي الى كردفان ومعي بعض الزملاء نابو محمد وعبد الرحمن مختار، لدعم عملية السلام ما بين الرزيقات والمسيرية تفعيلاً لدور منظمات المجتمع المدني في حفظ السلام واستقراره. الا ان العربة التي كانت تقلنا وهي مؤجرة من احدى الشركات توقفت بنا تماماً في مدينة الابيض، ولم يستطع اي من السائقين التحرك شبراً تجاه وجهتنا، وهي مناطق المسيرية في رجل الفولة والمجلد والميرم، بحجة ان الامن غير مستتب بتاتاً، وهكذا مكثنا في الفندق اربعة ايام حسوماً، حتى قفلنا راجعين الى من حيث قدمنا، وكانت مأساة كبيرة أن تتقطع اوصال البلاد الغربية بهذه الحالة المزرية، وفي الأيام التي قضيناها في الابيض، كنا نتحسس حالة الناس، وذهبنا بأنفسنا الى مواقف المواصلات، ووجدنا كيف ان العربات الكبيرة والجرارات تتكدس في بدايات الطرق السريعة، منتظرة اشارة الانطلاق، والتي لم تعلن صفارتها الانطلاق لمدة تزيد عن خمسة عشر يوماً، وإذا كانت هذه الحال في الأبيض فإن الحال في مواقف النهود أسوأ، وذلك أن النهود مفترق طرق حقيقية، فعندها ينتهي الاسلفت اتجاه غرب السودان، ومن هناك تتحرك العربات لشمال دارفور، ومنها ينطلق الطريق الاوسط الذي يتحرك الى نيالا، وكذلك الطريق المتجه الى الجهات الشرقية لدارفور والغربية لغرب كردفان، كمناطق غبيش واللعيت والضعين، وطريق أم قرناً جاك والفولة والمجلد، وقد تكدست العربات في النهود لمدة تزيد أيضاً عن خمسة عشر يوماً بسبب انتشار الحركات المسلحة التي قدمت من الجنوب وغطت معظم الطرق ما بين شرق دارفور وغرب كردفان، وللقارئ أن يتخيل مدى الاضرار والدمار الذي سببته الحركات المسلحة باحتلال هذه الطرق، ومدى التقاعس من الجهات المعنية التي عجزت عن صدها، «والعين تشوف العين» والمواطن المسكين الغلبان الذي لا حول له ولا قوة فهو الذي يدفع الثمن، وتخيل معي اخي القارئ كم من واحد التلاميذ الصغار جاء الى كردفان او الجزيرة او الخرطوم ارسله والده ليصل رحمه، وعند افتتاح المدارس قفل راجعاً بأقل مصاريف في يده ثم يُحجز في الابيض او النهود بحجة الطريق غير آمن، ماذا يفعل مثل هذا الطفل وقد انقطعت به السبل وانتهى مصروفه؟، فيطوي الجوع بطنه وحتى الماء لم يكن متوفرا، لقد شاهدت بنفسي ان ازيار السبيل وجدتها او بعضها فارغاً، وعندما سألت احد الاخوة قال لي البرميل من الماء وصل سعره الى 15 جنيهاً، قلت له نحن في الخرطوم اشتريناه بخمسة وعشرين جنيها، ولكن هذا «الغرباوي» رد لي ردا بليغا فقال لي أنتم نفسياً ما عندكم مشكلة، ممكن الواحد فيكم يشيل صفيحته على رأسه ويذهب الى النيل ليسقي عياله في حالة الضرورة، فإلى اين نذهب نحن؟! ألجمتني حجة هذه الرجل، فقد عرفني بالنعمة التي نرقد عليها في الخرطوم، ولا حمداً ولا شكراً. وهكذا تزول النعم، فلنمض في المأساة التي رسمت طريقها قسوة الحركات المسلحة وعجز حكومة البلاد. وكم من مريض انهى علاجه وقفل راجعاً الى أهله في دارفور ثم يجد الطريق مغلقاً لمدة تزيد عن خمسة عشر يوماً .. كم من عامل او موظف جاء ليقضي إجازته ثم اوشكت الاجازة على الانتهاء ثم يجد نفسه محجوزا في منطقة «لا تالي فيها ولا والي».. ولا شك ان المصاريف معدودة ومحدودة، والوجبة الواحدة لا تقل أبداً عن عشر جنيهات ما عدا الفول، قال لي احد اصحاب الترحيلات ان بعض الركاب بدأ يتسول الطعام، والبعض الآخر سحب بقية الأجرة من الترحيلات ليعيش عليها منتظرا الفرج من الله في حال تم فتح الطريق، ليجد ويبحث من جديد لايجاد قيمة الترحيل من الابيض او النهود الى بلاده. هذه مصيبة كبيرة حدثت للمواطنين المسافرين الى دارفور وغرب كردفان بسبب قطع الطرق من الحركات المسلحة، وعجز القوات النظامية عن دحر هذه الحركات، فمن المسؤول عن ذلك امام الله يوم المحشر العظيم؟ يوم توزن الاعمال بأدق من ميزان الذهب عندنا في الدنيا، من يعمل مثقال ذرة شراً يرى ومن يعمل مثقال ذرة خيراً يرى، واذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: إذا عثرت بغلة بالعراق ظننت أني مسؤول عنها لأني لم اسوِّ لها الطرييق»، فكيف بحكومة كاملة لم تسوِّ الطريق لآلاف الركاب المساكين الذين هم في ذمة المسؤولين الى يوم الدين. وهناك بعض العربات الصغيرة التي تحمل ركاباً لا يزيدون عن خمسة عشر راكباً، يتفلتون من الاجراءات الامنية، ويتوكلون على الواحد الاحد، ويتحسبنون ويتحوقلون ثم ينطلقون الى مراميهم سواء الى دارفور عامة او الى غرب كردفان واياديهم على قلوبهم والى اطفالهم ينظرون بخوف شديد، منهم من سلمه الله ومنهم من وقع في براثن الحركات المسلحة، او انياب النهب المسلح.. تماماً كحكاية الشخص الذي طارده ثعبان كبير حتى صعد شجرة كبيرة، وهناك في أعلى الشجرة ناجاه مناجي اذ طلعت فوق الموت جاك مقارب وإذا نزلت تحت تجد دبيب وعقارب! فهذه الحكاية انطبقت تماماً، على المواطن الدارفوري، اذا نجا من الحركات المسلحة لم ينج من النهب المسلح.. يا إلهي ما هذه الأقدار؟! أشنيعة ارتكبناها ام ابتلاءات بها الله ابتلانا ومشيناها خطى كتبت علينا ومن كتبت عليه خطى مشاها. ونحن في الابيض ونترجأ أصحاب الشركة ان يسهلوا لنا امر المغادرة من الابيض الى كردفان الغربية ونحن مسؤولون عن ارواحنا، فكان الرد من الوسيط وماذا عن عرباتهم؟ وما هي الضمانات الا يختطفها قادة الحركات المسلحة، لا سيما ان العربة تحمل لوحة استثمار.. وكما يقول المثل هذا هو العوم الذي يحبه القرنتي.. لأن الحركات المسلحة احيانا ربما، وأكرر ربما تتساهل مع أصحاب العربات الخاصة، وعندما قلنا ربما لأن كثيراً من المتمردين من يسطو حتى على العربات الخاصة، وهذا منعطف خطير وسوف اكمل به مقالي هذا... اما العربات الاخرى فنهبها عندهم حلال.. وعلى العموم ونحن نناجي قيادة الشركة المؤجرة لنا العربة في الخرطوم، كان لا بد من الاتصالات المباشرة مع الذين نحن ذاهبون اليهم في منطقة المسيرية، فأكد الجميع أن الطرق ليست آمنة في كل النواحي في شرق دارفور وغرب كردفان، وكما قالوا فإن الحركات تتمرد في مناطق ابو بطيخ وحول بليلة وحتى الطريق من المجلد للبرام تحفه المخاطر، ولكنهم قالوا ان التمشيط جارٍ لاخراج المتمردين من المنطقة، اما المفاجأة الكبرى او الكارثة الاكبر فهي عندما اتصلت بولايتي شرق دارفور، فهالني الذهول وتملكني الحزن، وعلمت ان الحركات المسلحة عندما دخلت الجهة الجنوبية الشرقية للولاية وجدت امامها شركة تحفر حفيراً في منطقة دوانو، وهذا الحفير ضمن حفيرين آخرين ظللنا نطالب بتنفيذها للحد من هجرات الرعاة في فصل الصيف للجنوب الذي اصبح دولة، وربما يسن من القوانين ما يحد من هجرات الرعاة، فهؤلاء المتمردون عاثوا في هذا الحفير الفساد، اولا صادرا كل الجرارات والقلابات والعربات الصغيرة، والآليات الثقيلة التي لم يستطيعوا تحريكها احرقوها تماماً تماماً..! ونهبوا حوالي ستين آلية متحركة من هذا الحفير، والحفير ليس حفيراً عادياً وإنما شبه بحيرة مائية بها كافة ادوات البحيرة المائية من صهاريج كبيرة واجهزة لتنقية المياه ومضخات عالية الضخ، ولكن الاخوة ابناء دارفور في لحظة جعلوا كل هذا «المنشود» خراباً ويباباً وتراباً في تراب، وللأسف من بين المعتدين بعض أبناء القبيلة!! فكيف لهؤلاء غداً عندما يوقعون اتفاق سلام أن يتحدثوا عن التنمية وتقديم خدمات للرعاة؟ احد الاخوة الدستوريين من ولاية شرق دارفور، قال لي كنا في اجتماع بعد هذه الحادثة حادثة الاعتداء على الحفير دوانو، «اجتماع مجلس الوزراء» وكان احد المتحدثين من مجموعة تيجاني سيسي المستوعبة ويتحدث هذا عن احتلال العدل والمساواة للحفير ورفضه للتخريب، ويتحدث عن الهجمة على السودان والمؤامرة الدولية، قال لي هذا الدستوري ما بقي الا ان اضربه بالصحن الذي امامي متسائلا في نفسي كم من التخريب فعل هذا المتمرد.. وكم من المؤامرات حبك هذا، والآن يتحدث عن انتهاكات التمرد، قلت لهذا الدستوري ان هذه الحكومة من شجعت هؤلاء على فعل كل هذا، وتجري وراء الحركات لتوقيع اتفاقات سلام ومن أجل وريقات موقعة مع الحركات لتعلنها للشعب السوداني وتلهيه بها، وتنسى كل التجاوزات في حق الدولة وحق الشعب والحق الخاص، فكم من متمرد هتك وقتل وفتك وسفك ثم جاء يتمطى دون ان يفتح عليه بلاغ خاص من مسكين هتكت اعراضه، ونهبت امواله ببساطة، فهناك حصانة دستورية تحمي هذا الظالم، وهذا ما جعل اربعة مدعين في قضايا دارفور يقدمون استقالاتهم، ومتى يقدم وزير العدل استقالته؟! فسكت هذا الدستوري ولم يلوِ على شيء. لقد ارتكبت العدل والمساواة في حق حفير داونو في شرق دارفور جريمة لا اظن ان الله سيغفرها لها، ثم التاريخ والناس.. ان القضية الاساسية التي تقول بها الحركات المسلحة، هي استهداف الحكومة، ولكن ما بال الخدمات التي تقدم لهذا المواطن المسكين؟!! ولماذا الاعتداء على العربات الخاصة التي تنقل المسافرين؟! ولماذا خطف الشباب عنوة؟ لقد انكشفت الحركات المسلحة وتعرت تماماً بهذا السلوك أمام هذا الشعب الذي وقع تماماً بين الدبيب والعقارب والموت الجاه مقارب ما بين سطوة الحركات المسلحة وسطحية الحكومة في التعامل مع الشعب بهذه الكيفية، فلا هي تعترف بالحركات المسلحة وتقدم لها التنازلات حتى يرتاح الشعب، ولا هي حاربتها وطردتها وسوت الطرق له كما فعل سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والرسالة هنا أعني بها عمر حسن أحمد البشير رئيس هذه البلاد. وعندما تساءلت بعد تخريب حفير دوانو وسرقة معداته وآلياته المتحركة أين قيادة الجيش في الضعين؟ قالوا لي إن الجيش لم يتحرك شبراً، وهذا يؤكد حديث الناطق الرسمي للقوات المسلحة من جهة أن لا جيش هناك في منطقة أم عجاجة، وغير صحيح من قوله إن الحركات استهدفت معدات لطريق يُسفلت، فلا طريق يسفلت في تلك المنطقة وإنما هو حفير. علمت أن الوالي في أية ولاية ليست له اية قرارات على الجيش، بما أنه رئيس لجنة الأمن والدفاع في المنطقة، وهو ليست له ارادة على الجيش، يعنى كمن يرمي في اليم ونقول له إياك أن تبتل، وهنا أقول لولاة الولايات العرفية في دارفور التي تعاني افرازات تصرفات الحركات المسلحة، إما أن تحكموا «عديل» وتكون قيادة الجيش او الكتيبة تحت إمرتكم، واما ان تستقيلوا رحمكم الله، حتى تخففوا من ذنوبكم وتحفظوا ماء وجهكم امام شعبكم، واما أن تذهبوا الى متاحف التاريخ، ولكن لن يزوركم زائر، وثانياً وثالثاً أقول للعدل والمساواة لماذا دونتم دوانو بالمدافع وهو حفير يسقي أهلكم الرعاة.. وليس مصنع سلاح لتحاربكم به الحكومة؟!