ظل الفكر الإسلامي لقرون مضت صامداً امام التيارات والرياح العاصفة التى حاولت مراراً اجتثاثه من الواقع والزج به بعيداً عن حركة البشرية وتفاعلاتها الاجتماعية بشتى صنوفها واتجاهاتها ، لكن لم يفلحوا فى النيل من الإسلام عقيدة وفكراً ، لكن استطاعوا بقدر كبير ان يؤثروا على المسلمين فكريا وثقافيا واجتماعيا ، بل ذهبوا اكثر من ذلك حيث اتخذوا من بعض المسلمين معاول لهدم الفكر الإسلامى وخلخلته من الداخل سواء كان ذلك عبر المنظمات والجمعيات المشبوهة كالماسونية والقاديانية اللتين اتخذتا من التصوف منطلقا لفكرتها فى بعض النواحى ، او كان عبر القيادات السياسية على وجه التحديد ، فمن المعلوم ان الاستعمار عندما خرج من الدول الإسلامية والعربية خلف وراءه« ابناء» يسيرون بنهجه ورؤيته ، ولذلك غزت بلاد المسلمين تيارات فكرية سياسية كانت هى الحاكمة للدولة والمسيطرة على حركة الحياة بشكل عام ، فقد كان للاشتراكية والرأسمالية والقومية العربية مساحة مقدرة فى العالم الإسلامى ، حكمت الشعوب العربية والإسلامية تحت مظلة هذه التيارات ايام وليالى وسنين ،كانت اياماً حسوماً ، وليالى مظلمة ، وسنين عجاف ، لم يجن منها الشعب المسلم الا الذل والخزى والعار والانتكاسات العسكرية والاخلاقية ، بل الفشل التام فى جميع مناحى الحياة ، ظل الحال هكذا ردحاً من الزمان الى ان ظهرت على مسرح الحياة السياسية التيارات الفكرية الإسلامية او ما يعرف بظاهرة الصحوة الإسلامية ، وكونها تكون صحوة معنى ذلك كانت هناك غفوة او « نومة » وفى تقديرى انها كانت نومة لانها طويلة ، ويرى عدد من المفكرين المسلمين ان من اهم اسباب الصحوة الإسلامية غزو التيارات الفكرية الغربية للعالم الإسلامى ، وانما جاءت هذه الصحوة كرد فعل غاضب على هذه التيارات التى اثبتت عدم جدواها ونفعها للمسلمين ، مما جعل هذه الشعوب الظامئة ان تلجأ للإسلام كحل نهائى لمشاكلها وقضاياها المعاصرة ، والواقع الذى نعيشة اليوم يؤكد ذلك فالربيع العربى الذى اجتاح العالم من تونس وليبيا ومصر والبحرين والاردن ، والصراع بين مجلس الامة الذى يسيطر على معظمه الإسلاميون الكويتيون، فكل هذه يدل دلالة واضحة على عدم رضا الشعوب الإسلامية بالافكار المستوردة والرؤى المعلبة فلا القومية نجحت فى مصر ولا الليبرالية نجحت فى تونس ولا حتى العلمانية نجحت فى تركيا مع نجم الدين اربكان ورجب اردوغان زعيما التوجه الإسلامى، اذن السؤال المطروح ماهى دوافع واسباب النمو المطرد لحركة الإسلام السياسى فى المنطقة العربية والإسلامية ؟ فاز الإسلاميون فى تونس رغم الحصار المضروب عليهم سنين ، كما فاز الإسلاميون فى المغرب وليبيا ومتصدرين لحركة العمل السياسى فى الاردن والكويت بل فى معظم بلدان العالم الإسلامى ، واخيراً كانت مصر وفوز الدكتور محمد مرسي عن جماعة الاخوان المسلمين فلماذا هذا الصعود لحركة الإسلام السياسى فى الحياة المعاصرة ، فلابد من قراءة هذه الظاهرة والوقوف عنده بدقة متناهية لمعرفة اسبابها ومن ثم وضعها فى الاطار الصحيح بعيدا عن الاهواء والمزايدات السياسية ، فاذا كان علماء الغرب ومفكروهم يعترفون بتقدم الإسلام سياسياً فلماذا يظل بعض اذناب الغرب بعيدين كل البعد عن معرفة وتقييم هذه الظاهرة بل اصبحوا كالفئة التى قال عنها القرآن الكريم « وجحدوا بها واستيقنتها انفسهم ظلماً وعلواً » ليس هناك سبب غير هذا ، وعجبت جداً لبعض المعلقين المصريين الذين شككوا فى فوز محمد مرسي مرشح الاخوان المسلمين لرئاسة مصر فلماذا لايفوز وقد سبقه فى ذلك الاخوان المسلمين فى تونس والمغرب وغيرها . ان نجاح الإسلاميين سياسياً لم يأت من فراغ انما جاء نتيجة لتخطيط بعيد المدى فالإسلامى فى حالة تخطيط دائم فى المنفى او السجن كما هو الحال فى مصر فهو يحمل فكرة والافكار لاتموت وان مات اصحابها فالامام حسن البنا رائد العمل الإسلامى وقائد الصحوة الإسلامية فى الوطن العربى كله كان يحلم بالدولة والدعوة جنباً الى جنب باعتبارهما واجهتين لعملة واحدة، وقد استشهد فى مرحلة الدعوة لكن بعده تحقق الجزء الثانى من الفكرة وهو قيام الدولة بعد فوز مرشح الاخوان المسلمين . من المؤرخين الغربيين المهتمين بالحركات الإسلامية والسياسية منها على وجه التحديد صاحب الكتاب المشهور صدام الحضارات « صمويل » فقد حلل ظاهرة الإسلام السياسى المعاصر تحليلا علمياً ومنطقياً حيث قال « ان الجماعات الإسلامية اخرجت الى حيز الوجود مجتعاً مدنياً إسلامياً يوازى فى حجمه ونشاطه وغالباً مايفوق المؤسسات الضعيفة فى المجتمع المدنى العلمانى ، ويمثل لذلك بحركة الاخوان المسلمين فى مصر حيث يقول «فى اوائل التسعينات قامت الجماعات الإسلامية ويعنى الاخوان المسلمين بإنشاء وتطوير شبكة واسعة من المؤسسات التى استطاعت ان تملأ فراغاً تركته الحكومة ، بتقديم خدمات صحية وتعليمية وخدمية وغيرها لعدد كبير من المصريين الفقراء بعد زلزال عام 1992 م فى القاهرة فقد كانت المؤسسات فى الشارع المصرى خلال ساعات تقدم الطعام والبطاطين بينما تأخرت جهود الحكومة فى الاغاثة » . هكذا يرى صمويل حركة الاخوان المسلمين فى مصر فليسوا جماعة منبوذة كما يصورها الغرب واعوانه انما هى جماعة مدنية تعمل وسط قطاعات الشعب المصرى فيما يحتاجه من خدمات فى الصحة او التعليم وهذه مداخل العمل السياسى لاى حزب فى الدنيا . ويسوق « صمويل » مثالاً اخر لجماعة إسلامية اخرى فى مجال تقديم الخدمات فيقول « واصل الاخوان المسلمون فى الاردن بكل وعى سياسة تطوير البنية الاساسية الاجتماعية والثقافية من اجل جمهورية إسلامية اذ قال : فى بداية التسعينات فى ذلك البلد ذوى الاربعة ملايين نسمة كان هناك مستشفى كبير يعمل ومستوصف واربعون مدرسة إسلامية وادارات اتحادات للطلاب ومنظمات للشباب والجمعيات الدينية والاجتماعية بما ذلك المدارس من الروضة الى الجامعة الإسلامية ، يرى صمويل ان هذه الاعمال والخدمات التى يقدمها الاخوان المسلمون هى التى جعلتهم فى الصدارة باعتبار ان الانسان أسير الاحسان . وينتقل الكاتب فى تحليله لظاهرة الحركات الإسلامية وانتشارها فى العالم بقوله فى اندونيسيا انتشرت المنظمات الإسلامية من السبعينات والثمانينات ومع بداية عام 1980 كانت المحمدية اكبر تلك المنظمات تتكون من ستة ملايين عضو، الامر الذى يمثل دولة دينية اجتماعية داخل الدولة العلمانية ، وكانت تقدم الخدمات لكل المجتمع من خلال شبكة واسعة من المدارس والمستوصفات والمستشفيات والوحدات التعليمية ، هذه رؤية وتنبؤات الغربيين لمستقبل الإسلام السياسى فى المنطقة العربية والشرق الاوسط بصفة عامة ولعل الفوز الذى حققه الدكتور محمد مرسي مرشح الاخوان المسلمين مؤخراً خير شاهد ودليل على ذلك ، فلاشك ان العالم اجمع تابع الخطاب الذى القاه الرئيس المصرى المنتخب ، فقد كان خطاباً عقلانياً ومنطقياً لامس مشاكل المصريين والتحديات التى تواجههم فى المستقبل، ووضع رؤية متكاملة للخروج من الأزمة المصرية الى بر الأمان عكس ماكان يتوقعه خصومه الذين لايرون فى الاخوان المسلمين الا مايراه بعض الغربيين عن ظاهرة نمو الإسلام السياسى وخطره الذى يتوهمونه، لقد تجاوز الدكتور مرسي كل تخرصات وتحرشات الاعداء ، كان خطابه ينم عن حنكته السياسية وقدرته الادارية ، لقد عانى الاخوان المسلمون خلال 60 عاماً كل انواع الاذى والظلم والاستبداد، ومورست عليهم كل الضغوط فما زادتهم الا ايماناً وتثبيتاً على مبادئهم القوية التى كان يحلم بها الامام حسن البنا واستشهد من اجلها ،وهى تعاون الدولة والدعوة لتحقيق مقاصد الشرع العليا ، لقد كان خطاب الدكتور مرسي خطاباً جامعا مانعاً كما يقول الفقهاء، تحدث عن الدولة المدنية الحديثة وهى اللغة التى يفضلها الغربيون لانها من انتاجهم وادبياتهم السياسية ، كما تحدث عن المعاهدات الدولية والمواثيق بين الدولة المصرية ودول العالم وهى من اهم المرتكزات للعالم الخارجي، وبالذات امريكا واسرائيل ولذلك سرعان ما هاتف الرئيس الامريكى اوباما الرئيس المصرى المنتخب وهنأه بالفوز ووعد بدعمه كما سارعت اسرائيل نفسها ورحبت بخطاب الرئيس المصرى ورأت فيه اعتدالاً غير متوقع من مرشح الاخوان المسلمين كما سارعت دول عديدة كفرنسا وبريطانيا ومعظم الدول العربية مؤيدة للخط الذى رسمه الرئيس المصرى ،هذا الخطاب الذى القاه الرئيس خطاب غير عادى ويحتاج الى تحليل لكل فقرة من فقراته المليئة بالحكم والعظات والعبر . ان دولة مثل مصر التى تضم مسلمين ومسيحيين « اقباط » يجمعهم تاريخ وحضارة مشتركة ممتدة عبر تاريخ طويل لهى بحاجة لرجل مثل الدكتور مرسي الذى جاء من طبقة الفقراء من الناحية المادية ومن طبقة الاغنياء من الناحية العلمية والاخلاقية والحضارية . ان فوز الدكتور مرسي لهو فوز للمصرين جميعاً مسلمين ومسيحيين لانه جاء من قلب ميدان التحرير الذى شارك فيه كل المصريين من اجل الحرية والعدالة والتنمية الاجتماعية ، فهو اذن مدعوم من حركة الاخوان المسلمين من جهة ومن المجتمع المصرى كله من جهة اخرى ، ولهذا نتوقع له نجاحاً غير مسبوق خاصة بعد ان القم المرجفين حجراً بخطابه الذى جمع فأوعى ، وهكذا دأب الإسلاميين الصادقين الذين يجمعون بين الاصالة والمعاصرة وبين الشورى والديمقراطية كما فعل رجب طيب اردوغان فى تركيا بكل تعقيداتها العلمانية المحروسة بالجنرالات استطاع فى خضم هذا الجو العلماني ان يخطو بتركيا خطوات نحو التقدم والرفاهية والتنمية الاجتماعية افضل مما يتصوره الغربيون ولذلك فان الدكتور مرسي يمكن ان يتجاوز بمصر كل عهود التخلف السابقة الى مرافئ التقدم والتنمية والديمقراطية من منطلق فكره الإسلامى الاصيل، وان تم ذلك بفضل الله وعونه فقد تحققت نبوة المصطفى «صلى الله عليه وسلم» حين قال « بدأ الإسلام غريباً وسيعوز غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء » . ان فوز الاخوان المسلمين فى مصر بالتحديد يختلف عن كل فوز للاخوان المسلمين فى اى قطر اخر باعتبار ان مصر مصدر حركات الاخوان المسلمين فى العالم اجمع ولها من المرتكزات العلمية والفكرية مايمكنها من تحقيق اهدافها وبرامجها الاستراتيجية ، فحركة الاخوان المسلمين فى مصر دخلت كل بيت ومدرسة وجامعة رغم الحصار المضروب عليها من الداخل والخارج حتى اصبحت حركة مجتمع مدنى كما وصفها صمويل فى كتابه صدام الحضارات ، لكن الان وقد اصبحت حركة الاخوان المسلمين فى قمة الدولة بعد ان كانت فى سجون الدولة منذ الخمسينات الى ماقبل 25 يناير الماضى فهل تستطيع مواجهة التحديات الاقليمية والعالمية وتصمد امام رياح العولمة العاتية ؟ نواصل