الوضع الإقتصادى السيىء الذى تعانى منه البلاد هو نتيجة للعديد من القرارات الإقتصادية المرتبطة ببعض السياسات غير الواقعية وغير العملية التى طبقت فى حكم البلاد منذ فترة الحكم المايوى ، الذى حاول أن يحدث انقلاباً على النظم الإدارية والإقتصادية السائدة فى البلاد وعمل على خلخلة النظام الإدارى والتعليمى والمؤسسى الذى قامت عليه الدولة السودانية منذ فترة الحكم التركى ، وعمل على إعادة هيكلة الدولة بطريقة ثورية وقرارات سياسية متعجلة ، ثورة تعليمية ، وثورة إدارية كانت تهدف إلى إضعاف مؤسسات نظام الإدارة الأهلية والقضاء على البنية والإرث الذى كانت تستند إلية الأحزاب الطائفية التقليدية. وبالرغم من الجهد الكبير الذى بذل لتطوير أنظمة الحكم المحلى ، ومحاولات نشر وتثبيت فكرة اللامركزية فى الحكم ، إلا انها كلها لم تسلم من الترهل الإدارى والتوسع فى الوظائف وإختراع المسميات من الضباط السيارة فى عهد الراحل د. جعفر محمد على بخيت الذى قام بترفيع بعض موظفى الحكم المحلى من خريجى المدارس الثانوية إلى درجة ضابط إدارى ، وحتى عصر ثورة الإنقاذ التى كثرت فيها المعتمديات والمفوضيات والمستشاريات والمجالس والخبراء. السيد نائب رئيس الجمهورية فى خطابه بالمجلس الوطنى تحدث عن أهمية توزيع السلطات وتلبية التطلعات السياسية لمختلف أبناء اقاليم السودان لأن ذلك يساهم فى الإستقرار السياسى ويرضى طموحات الناس ، وهذا حديث جيد ، ولكننى أعتقد أن تحقيق الطموحات الإقتصادية فى هذا الزمن يجب أن تحظى بالأولوية فى ظل ظروف السودان الحالية ، خاصة وأن إرضاء الطموحات السياسية ظل مرتبطاً فى كثير من الأحيان بإرضاء بعض الأفراد من الصفوة والمثقفين من أبناء الأقاليم المختلفة لاسباب سياسية تفوق القدرة الإستيعابية للأجهزة الإدارية أو قدرة بعض الأقاليم فى تحمل النفقات الباهظة للنظام الفيدرالى من أجهزة تشريعية وتنفيذية وخلافه . لقد بدأ تنفيذ الحكم اللامركزى فى السودان منذ السبعينيات من القرن الماضى ، ومع ذلك فهو لم ينجح فى تلبية طموحات العديد من المناطق فى السودان ، اذ إستمرت الأوضاع فى التدهور فى جنوب السودان بالرغم من منحه تفرداً إدارياً لم تحظَ به كافة أقاليم البلاد بعد إتفاقية أديس أبابا 1972، وكذلك استمرت حالة عدم الثقة وتدهور العلاقات الشمالية الجنوبية بعد نيفاشا 2005 ، إلى أن إنتهت بالإنفصال ، وربما يصعب المقارنة بين الحالة مع جنوب السودان ببقية الأقاليم الأخرى ، ولكن هناك بؤر توتر مندلعة فى بعض أقاليم السودان مثل دارفور وجنوب النيل الأزرق وجنوب كردفان ، وكلها تدعى أن لها حقوقاً منقوصة ، بالرغم من أنه لا يوجد إنتقاص لهذه الحقوق فى الدستور أو القانون المطبق الآن فى السودان ، وبالرغم من أن كل هذه الأقاليم تتمتع بأجهزة تشريعية وتنفيذية تمثل أبناء تلك الأقاليم . لقد إستجاب الحكم اللامركزى فى السودان لتطلعات الصفوة فى مختلف الأقاليم ووزع عليهم الوظائف والمناصب والمغانم ، وإستمر الحال على ذلك المنوال متوارثاً عبر مختلف الحكومات إلى الآن ، وخلق إنقساماً بين فئتين من أبناء الأقاليم فئة كانت مقربة من الحكومات القائمة وكانت تحظى بالثروة والسلطة ، وفئة إختارت أن تعارض الحكومة إما لأسباب سياسية أو لإحساسها بالإهمال وأعلنت التمرد بصور مختلفة وبعضها إختار أن يحمل السلاح. أعتقد أنه قد حان الوقت لمراجعة جدوى تطبيق النظام اللامركزى المترهل الحالى الموجود فى السودان الذى ربما يصل عدد ولاياته الآن الى حوالى عشرين ولاية وهذا يعنى عشرين مجلساً تشريعياً وعشرين مجلس وزراء ومحليات ومعتمدين بالعشرات وغير ذلك من المسميات ولكل ولاية مستشار أو عدد من المستشارين والخبراء وما يتبع ذلك من الإداريين والموظفين ، جهاز إدارى وتنفيذى ضخم لا تتحمله مناطق السودان المختلفة وهو البلد الذى لا زال بعض سكانه يعيشون فى بيوت القش والطين ومعظمهم لم تصلهم الخدمات الأساسية من كهرباء ومياه نقية . إننى فى كثيراً من الأحيان وأنا من أبناء الخرطوم أعرف كل حواريها وأزقتها وضواحيها ، اطرح سؤالاً حول الجدوى الإدارية والإقتصادية التى استدعت وجود تسعة معتمدين فى ولاية الخرطوم ، إثنان منهم فى رئاسة الولاية ، ألم يكن يكفى الخرطوم ثلاثة معتمدين أو محافظين لكل من الخرطوم والخرطوم بحرى وأم درمان ، ولماذا يوجد أربعة رؤساء مجالس للبيئة والثقافة والفنون والتخطيط الإستراتيجى والشباب والرياضة ، وهى مهام يمكن أن تتم وتدار من خلال ثلاث معتمديات أو محافظات ، دون خلق مسميات جديدة تكاد تكون موازية لمجلس وزراء الولاية إن مدينة القاهرة الكبرى التى تحتضن حوالى خمسة عشر مليون نسمة أى ضعف أو ربما ثلاثة أضعاف سكان الخرطوم يديرها محافظان أحدهما فى القاهرة وآخر فى الجيزة ، و مدينة دبى بكل صيتها وضجيجها العالمى والتى أصبحت مركزاً مرموقاً للتجارة والسياحة على مستوى العالم تدير كل شئونها بلدية دبى وهى مسئولة عن التخطيط الحضرى ، ومسئولة عن حماية البيئة وصيانة الحدائق وهيئة المواصلات والنقل وكل ما له صلة بالمدينة وطرقها ومرورها الإلكترونى الذى يستخدم أحدث نظم الإرشاد المرورى وتحديد الموقع الكونى ( Global Positioning System GPS ). حتى عهد قريب كان للخرطوم ثلاثة ضباط للمجالس فى الخرطوم وأمدرمان وبحرى ، وتمدد العمران فى أجزاء الولاية المختلفة لم يكن يستدعى خلق كل هذه المعتمديات والمسميات الكبيرة ذات التكاليف الضخمة ، وكان يكفى أن يتم تشكيل مجالس الأحياء كروافد إدارية صغيرة لإدارة شئونها ، واذا ما كان محافظ القاهرة يستطيع أن يدير كل القاهرة من المعادى فى جنوبالقاهرة إلى تخوم محافظة القليوبية فى الشمال و التى تمتد بطول يصل إلى حوالى 70 كيلومتر ، فما بالك بالخرطوم التى لا تزيد المسافة بينها وجبل الأولياء عن 35 او 40 كيلومتر، مع الفارق الضخم فى الكثافة السكانية والعمران ، لماذا توجد محلية ومعتمد فى جبل الأولياء مثلاً أو شرق النيل؟ وما هى جدوى مثل تلك الوظيفة فى تلك المنطقتين اللتين تعتبران من ضواحى الخرطوم ومنتجعاتها الصغيرة؟ ، هل هى لتقليص الظل الإدارى ؟ أم لإرضاء سكان المحليتين اللتين فى الواقع ترتبط حياتهم بمحلية الخرطوم أكثر من محلية جبل الأولياء أو شرق النيل؟ ، ذلك لان كل مصالحهم فى الخرطوم . أوردنا الخرطوم كمثال لنقول إن الخرطوم الكبرى ( الخرطوم وأم درمان وبحرى) فى عهد محافظها الواحد مهدى مصطفى الهادى كانت شبه خالية من هذه الفوضى الضاربة الآن فى شوارع وسط مدينتها ، لم يكن يوجد مثل هذا العدد الضخم من الباعة المتجولين الذين يفترشون الأرصفة ،ولا توجد بها مثل هذه البيئة الملوثة بدرجة ملفتة خاصة فى منطقة موقف كركر ومنطقة ميدان جاكسون والشوارع المحيطة بهما ، باعة اللحمة والخضار والفواكه ومحلات السندوتشات والملابس والتمباك والدوم والنبق وكل ما يخطر على البال ، يكاد أن يغلقوا الشوارع ويسدوها أمام المارة ، الموقف تحول إلى سوق ولا يسأل أحد أين يقضى هؤلاء الناس حاجتهم وهم يعملون فيه منذ الصباح الباكر وحتى ساعات الليل ؟! ، الموقف الذى كان من المتوقع أن يكون نموذجياً اصبح مظهراً للفوضى والزحام والتكدس البشرى والمرورى، المسألة تحتاج إلى نظرة إستراتيجية حقيقة وشاملة ، وبما أن الولاية لديها جهاز للتخطيط الإستراتيجى ، أعتقد لابد من إعادة النظر بطريقة فاحصة وشاملة فى حركة الإنسياب المروى والبشرى فى المدينة ، وسبق أن طرحت منذ منتصف السبعينيات فكرة أن يتم تحويل المنطقة الممتدة من السكة الحديد وحتى منطقة مطار الخرطوم مستقبلاً كمساحة خالية من المبانى تعتبر رئة للمدينة وبها مجموعة من المنتزهات العامة التى تدور حولها خطوط المواصلات دون توقف ، كما أشرت إلى ضرورة خلق منطقة سيادية شمال السكة السكة الحديد الحالية ، مع نقل كل الوزارات غير السيادية خارجها ، والإبقاء على قليل من المرافق الخدمية التى تحتاجها تلك المنطقة السيادية وقد قام د. جعفر محمد على بخيت بتحويل تلك المخترحات إلى لجنة فى مجلس الشعب آنذاك لدراستها ولم أسمع عنها بعد ذلك . لقد إعترفت الحكومة الآن فى ظل الضائقة الإقتصادية بأن هناك ترهلاً إدارياً ووظيفياً يمكن الإستغناء عنه ، ولم يكن ضرورياً ، ويمكن توظيف ما كان ينفق عليه لتحقيق منافع أخرى أنفع للمواطنين فى مختلف بقاع السودان ، وأن يتم إدراك الخطأ وتصحيحه أفضل من أن يتم تجاهله والإستمرار فيه ، أعتقد علينا أن نفكر جدياً فى العودة إلى نظام المديريات القديم بستة حكام أو محافظين وعلينا أن ننسى حكاية المجالس الولائية والوزراء الولائيين لانها ترف وتمدد إدارى لا نملك ثمنه فى السودان والمثل بقول مد رجليك على قدر لحافك . فى محاضرة عن البيئة رعتها شركة زين للدكتور محمد عبدالله الريح بالنادى العائلى بالخرطوم 2 الإسبوع الماضى ، قال ان الرياح تنقل يومياً عشرات الأطنان من مخلفات التمباك التى يبصقها الناس فى شوارع الخرطوم وهى مخلفات تحوى مواداً مسرطنة ، ويقوم الناس بإستنشاقها أو أكلها عن طريق الخبز والمأكولات المعروضة فى الطرقات ، واذا ما كانت مثل هذه المعلومات صحيحة خاصة وأنها تصدر من أكاديمى وباحث معروف ، فلماذا منعت الولاية الشيشة ولم تمنع التمباك ؟ خاصة وأن الخطر الناجم عن التمباك ربما كان أكبر من خطر الشيشة ، لان تدخين الشيشة ليست عادة منتشرة فى السودان ولها علاقة بالتدخين الذى ثبت أنه من أسباب إنتشار مرض السرطان ، لم أجد إجابة عن هذا التساؤل بخلاف أن الأمر فيما يبدو مرتبط بعمليات حسابية بحتة ولا علاقة له بصحة الإنسان.