لأنني لم احنها حية ( من شعر امل دنقل ) (( كان الفقر يضاعف احترامي لهذا الشاعر الذي يمكنه كثيرا النوم جائعا بينما يستحيل عليه النوم يوما متنازلا أو مساوما او مصالحا , و ما أكثر المتنازلين العارضين انفسهم في اسواق البيع و الشراء , ينامون و بطونهم تمتلئ بالتخمة و عقولهم بالمهانة )) عبلة الرويني ثلاث كلمات ربما تساعد في القاء الضوء المفسر لشعر امل دنقل هي الرفض و التحدي و الانسانية . تصفه زوجته عبلة الرويني بانه (( صخري شديد الصلابة لا يخشي شيئا و لا يعرف الخوف ابدا ... صعيدي محافظ , عنيد لا يتزحزح عما في رأسه )) و تواصل عبلة الحديث عنه و تقول (( لا يعرف امل منطقة الوسط و لا ينتمي للمناطق الرمادية , يمقت الحلول الوسط و يحتقر الانفعالات الوسط , انه يتلف الالوان جميعا ليظل الابيض و الاسود وحدهما في حياته .. يحب او يكره , يبارك او يلعن هارب دائما من كل مناطق الحياد التي تقتله أسماه صديقه الشاعر حسن توفيق هرقل و كان امل مذهوا بالاسم .. ? أه لو املك سيفا للصراع أه لو املك خمسين ذراع لتسلمت بايماني الهرقلي مفاتيح المدينة أسماه صديقه الدكتور جابر عصفور (( سبارتكوس )) فهو السائر دوما الي انتصاره في الموت , صعيدي حتي النخاع .. شديد الغيرة في كبرياء .. شديد النقاء .. شديد العناد شديد الثأر الدم أو يعود كليب حيا في احدي اللقاءات الصحفية معه قال : (( انا اعتبر ان الشعر يجب ان يكون في موقف المعارضة حتي لو تحققت القيم التي يحلم بها الشاعر لان الشعر هو حلم بمستقبل اجمل و الواقع لا يكون جميلا الا في عيون السذج )) و لذلك ظل اسم أمل مدرجا في قوائم الشخصيات الممنوع ذكرها داخل الصحف بل كثيرا ما قام المشرف العام علي الصفحات الادبية بشطب اسم امل من داخل خبر او حتي داخل استطلاع لاراء الكتاب و الادباء فاذا ذكر احدهم اسم امل أو اسم كتاب له قام المشرف العام بحذف هذه العبارات مرددا ان اسماء الشيوعيين لا حق لها في النشر بالصحف بل راح مرات عديدة يتهم امل بكسر عمود الشعر و الاساءة للغة بما يكتبه من شعر حديث . و لهذا التحدي و ذلك الرفض كتب أمل : المجد للشيطان معبود الرياح من قال لا في وجه من قالوا نعم من علم الانسان تمزيق العدم من قال لا فلم يمت و ظل روحا ابدية الالم رفض أمل الهجرة خارج الوطن رغم معاناته و فقره الذي اشتهر به و لذلك حين الحت زوجته علي الهجرة اهداها قصيدة (( مقابلة خاصة مع ابن نوح )) : صاحبي سيد الفلك قبل حلول السكينة انج من بلد لم تعود فيه روح ! قلتُ :- طوبي لمن طعموا خبزه في الزمان الحسن و اداروا له الظهر يوم المحن و لنا المجد نحن الذين وقفنا و قد طمس الله اسماءنا نتحدي الدمار و ناوي الي جبل لا يموت يسمونه الشعب نابي الفرار و نأبي النزوح كان قلبي الذي نسجته الجروح كان قلبي الذي لعنته الشروح يرقد ? الآن ? فوق بقايا المدينة و ردة من عطن هادئا بعد ان قال لا للسفينة و أحبّ الوطن لم يكن أمل مجرد شاعر رافض و متمرد و انما كان شاعرا مثقفا في صباه الباكر كان شديد التدين لا يترك فرضا يلقي خطب الجمعة في المساجد و يحمل عهدا و طريقا علي منهاج الشيخ ابراهيم الدسوقي ثم ترك النشاط الديني في شبابه معجبا بالماركسية و الوجودية . كانت القراءة بالنسبة له بحثا و اكتشافا لم تكن مجرد تراكم للمعلومات و لكن ما تثيره هذه المعلومات في الذهن حتي يمكن القول بان قراءته كانت عملا ابداعيا . كان امل من اول الرافضين لهزيمة يونيو 67 ابداعيا و اول من ادان الهزيمة و من تسببوا فيها , و لذلك نجده في قصيدته (( البكاء بين يدي زرقاء اليمامة )) يكتب بتاريخ 13 / 6 / 1967م أي قبل ان يمر اسبوع علي الهزيمة الفضيحة :- قلتِ لهم ما قلتِ عن قوافل الغبار فاتهموا عينيك يا زرقاء بالبوار قلتِ لهم ما قلتِ عن مسيرة الاشجار فاستضحكوا من وهمك الثرثار ! و حين فوجئوا بحد السيف قايضوا بنا و التمسوا النجاة و الفرار و نحن جرحي القلب جرحي الروح و الفم لم يبقي الا الموت .. و الحطام و الدمار و يواصل امل ادانته للهزيمة عبر قصيدته (( تعليق علي ما حدث في مخيم الوحدات )) :- قلت لكم مرارا ان الطوابير التي تمر في استعراض عيد الفطر و الجلاء ( فتهتف النساء في النوافذ انبهارا ) لا تصنع انتصارا ان المدافع التي تصطف علي الحدود في الصحاري لا تطلق النيران الا حين تستدير للوراء ان الرصاصة التي ندفع فيها ثمن الكسري و الدواء لا تقتل الاعداء لكنها تقتلنا اذا رفعنا صوتنا جهارا تقتلنا و تقتل الصغارا و لان أمل لم يكن من الذين يتبعون منطق تشريح الجثة لمعرفة اسباب الوفاة فانه لم ينتظر ان تقع الفأس علي الرأس و لكنه هو نفسه كان بمثابة زرقاء اليمامة حين كتب متنبئا بتلك الهزيمة القاسية و ذلك عبر قصيدته (( حديث مع ابي موسي الاشعري )) التي صاغها في مارس 67م اي قبل هزيمة يونيو يثلاثة اشهر :- ( و يكون عام فيه تحترق السنابل و الضروع تنمو حوافرنا ? مع اللعنات ? من ظمأ و جوع يتزاحف الاطفال في لعق الثري ينمو صديد الصمغ في الافواه , في هدب العيون فلا تري تتساقط الاقراط من آذان عزراوات مصر و يموت ثدي الام تنهض في الكري تطهو ? علي نيرانها ? الطفل الرضيع و لانه كان شاعرا مثقفا فان رفضه و تمرده لم يكن رفضا من اجل الرفض و لكنه رفض مستبصر ان صح التعبير و لذلك فانه حين يرفض اتفاقيات الصلح التي وقعها السادات مع العدو الاسرائلي في كامب ديفيد , فانه انما كان يريد للمفاوض المصري ان يرفع سقف مطالبه حسب رؤيتي الخاصة : لا تصالح ! .. و لو منحوك الذهب أتري حين أفقأ عينيك ثم أثبت جوهرتين مكانهما هل تري ؟ هي اشياء لا تشتري و لا يفوت علي أمل قسوة الحرب : انها الحرب قد تثقل القلب لكن خلفك عار العرب لا تصالح و لا تتوخي الهرب لا تصالح و لا تقتسم مع من قتلوك الطعام و اروِ قلبك بالدم و اروِ التراب المقدس و اروِ اسلافك الراقدين الي ان ترد عليك العظام ! و يرفع أمل سقف التفاوض الي اقصي حد حين يقول علي لسان اليمامة حين رفضت الصلح بعد مقتل ابيها و لو لم يبق احد يقدر ان يكافح و عرضت مطالبها :- أبي لا مزيد أريد ابي عند بوابة القصر , فوق حصان الحقيقة منتصبا من جديد و لا أطلب المستحيل , و لكنه العدل هل يرث الارض الا بنوها ؟ و هل تتناسي البساتين من سكنوها و هل تتنكر اغصانها للجذور (( لأن الجذور تهاجر في الاتجاه المعاكس ؟! )) و أخيرا يخاطب أمل كل العرب :- أقول لكم ايها الناس كونوا اناسا ! هي النار , و هي السان الذي يتكلم بالحق ان الجروح يطهرها الكي و السيف يصقله الكير و الخبز ينضجه الوهج ثم يقول علي لسان اليمامة :- ان الحمام المطوّق ليس يقدم بيضه للثعابين حتي يسود السلام فكيف اقدم رأس ابي ثمنا ؟ من يطالبنا ان أقدم رأس ابي ثمنا لتمر القوافل آمنة و تبيع بسوق دمشق حريرا من الهند أسلحة من بخاري و تبتاع منجال العبيد و قد يتساءل البعض عن سر هذه الصلابة وذلك الاصرار و الرفض في شعر أمل و قد سبق للدكتور محمد سعيد القدال في موقف مماتل ان تساءل عن سر القوة في شعر محجوب شريف و تبين له ان السر يكمن في أمر واحد هو ارتباطه الوثيق بالناس . ليس ارتباطا خطابيا او ارتباط من يدعي بطولة جوفاء ? و لا زال الحديث للقدال ? و لكنه ارتباط عميق متأصل في نفسه يشكل مجمل منهجه و سلوكه هذا الارتباط الحميم بالناس هو الارض التي يقف عليها و هي ارض صلبة و من فوقها يقول شعره الذي يخرج من اعماق الناس . في بداية علاقة امل بالصيق دكتور جابر عصفور ذهب يوما لزيارته فرآه غارقا وسط مجموعة من الكتب و الاوراق ضحك و قال له (( لن تستطيع ان تصبح ناقدا جيدا بهذه الكتب و الاوراق , لا بد لك من النزول الي الشارع و دخول التجربة كي تمتلك الرؤية ان الناس دائما هم الرؤية )) . و ربما لهذا كان رد فعله الطبيعي اثر سماعه لاي حدث سياسي او اجتماعي او ثقافي هو النزول فورا الي الشارع , حتي ان احد اصدقائه كان يعلق علي تصرفه ساخرا (( هل تتصور انك ستجد الحل علي قارعة الطريق ؟! )) لكن الناس ظلوا دائما هم نماذجه و هم وعيه الحقيقي الاول و لعل موقفه ذلك يشبه وقع الحافر بالحافر حديث عبد الخالق الشهير (( من الجماهير و اليها نتعلم منها و نعلمها )) و يشبه كذلك وقع الحافر بالحافر حديث غصان كنفاني عن أم سعد (( اننا نتعلم من الجماهير و نعلمها و مع ذلك فانه يبدو لي يقينا اننا لم نتخرج بعد من مدارس الجماهير المعلم الحقيقي الدائم و الذي في صفاء رؤياه تكون الثورة جزءا لا يتجزأ عن الخبز و الماء و أكف الكدح و نبض القلب )) و يشبه ذلك حديث شاعرنا العظيم محمد المهدي المجذوب في مقدمة ديوانه نار المجاذيب : (( و لقد افدت من مخالطة الناس خصوصا المساكين فلديهم صدق أخّاذ نفعني و شفاني )) و قد سبق هؤلاء جميعا الشاغر الالماني بريخت حين وصف جوركي بأنه معلم الشعب الذي تعلم في مدرسة الشعب . بجانب تمرد و رفض امل نجد له مواقف انسانية قل نظيرها نتمني ان تفرد لها مساهمة قائمة بذاتها فلدي مرضه الاخير و هو طريح المستشفي حين اصيب بالسرطان كان الكثيرون من اصدقاءه يزورونه و هم يحملون سلالا من الورد فكتب : و سلالا من الورد ألمحها بين اغفاءة و افاقة و علي كل باقة اسم حاملها في بطاقة ................ تتحدث لي الزهرات الجميلة أن اعينها اتسعت ? دهشة ? لحظة القطف لحظة القصف لحظة اعدامها في الخميلة تتحدث لي كيف جاءت اليّ كي تتمني لي العمر ! و هي تجود بانفاسها الاخيرة !! كل باقة بين اغماءة و افاقة تتنفس مثلي ? بالكاد ? ثانية ثانية و علي صدرها حملت راضية اسم قاتلها في بطاقة و في قصيدة اخري علي ايام ذلك المرض اللعين يكتب :- بين لونين استقبل الاصدقاء الذين يرون سريري قبرا و حياتي .. دهرا و أري في العيون العميقة لون الحقيقة لون تراب الوطن أخيرا كانت كلمات احدي اغنيات صديقه الابنودي هي آخر ما طلب سماعه ثم دخل في غيبوبة : يا ناعسة لا لا لا لا خلصت مني القوالة و السهم اللي رماني هالكني لا محالة مراجع : 1. كتاب الجنوبي , عبلة الرويني 2. امل دنقل دراسة , نسيم مجلي 3. التراث الانساني في شعر امل دنقل , د/ جابر قميحة عطبرة / مياه المدن