الساعة تمضى الى الثانية والربع صباحاً والخرطوم ترفض التثاؤب والنعاس كعادتها فى هذه الأوقات، ضجيج وحراك يعتمل فى الشوارع وبعض الأسواق والحدائق المفتوحة والمغلقة تشهد وقع أقدام وخطى تعاقر السهر حتى الساعات الأولى من الصباح فى رمضان مختلف تماماً عن سابقه بدرجات حرارة بدأت فى التصاعد سبقتها الأسعار وجنون ارتفاع السكر والاحتياجات الأساسية. مشاهد غير مألوفة فى مدينة تعانق النعاس وتذوب فى سكون قاتل يسبقه تلاشى الحراك فى اسواقها التى توصد أبوبها فى الحادية عشرة مساءً كل ليل عدا صيدليات ومنافذ كهرباء ومحطات تزينت بعبارة «خدمة 24 ساعة»، وإن كانت تعمل اقل من 20 ساعة، الا ان ملامح الشهر الفضيل ألقت بظلالها على العاصمة المثلثة ولم تتوقف على إعلانات الترحيب والترويج التى انتظمت الشوارع ترحيباً برمضان، وتهنئ الشعب السودانى بقدومه، وتروج بعبارات خجولة لمنتجاتها التى تتذيل عبارة تملأ اللافتات المضيئة «رمضان كريم تصوموا وتفطروا على خير». الساعة تشير الى الثانية الا ربعاً فى ام درمان وحديقة «حبيبى مفلس» تضج بالحاضرين، وليس مستغرباً وجود الأطفال مع أسرهم التى اختارت هذا المساء لتناول العشاء فى الهواء الطلق والسمر حتى ساعات الفجر.. اقتربنا من اسرة كريمة وتجاذبنا معها الحديث وتقاسيم السهر الرمضانى، عبد العظيم فتح الرحمن من سكان المربعات موظف حسابات يقول ل «الصحافة»: «تعودنا ان نخرج الى الحدائق والأماكن العامة بمصاحبة الأسرة الكريمة وحتى الصغار فى ليل رمضان لتناول العشاء والسمر خاصة يومى الخميس والجمعة» واضاف: «الدنيا إجازة وبكرة بنجر النومة ونحنا بنقعد هنا إلى قريب وقت السحور». ولم نبتعد منهم كثيراً حيث جلسنا الى مجموعة كبيرة من الشباب فاق عددهم فريق لكرة القدم يفترشون «ملاية» وتتاسبق ايديهم الى صندوق «الكتشينة»، محمود ابراهيم سائق امجاد يقول: «البرنامج ده يومى نحنا بندور حريق هنا لى الساعة اربعة وبنتسحر ونمشى نوم، وكمان مرات بنلقى مشوار من المساهرين معانا». ولم نتوقف طويلاً فى شارع المواصلات الذى لم يهدأ وان اختفت الحافلات وحللت محلها «الهايس» ملك السهر، فترجلنا من ام درمان صوب الخرطوم، فمن المشاهد المألوفة أيضاً فى ليل رمضان ظاهرة رياضة المشى التى كأنها فصلت على الكبارى، مجموعة من الشباب يرتدون الملابس الرياضية يمشطون الرصيف بجانبى جسر الفتيحاب جيئة وذهباً، وايضاً لا يخفى جود بعض الإناث يمارسن رياضة المشى بصحبة أسرهن حتى وقت متأخر من ليل رمضان. اما المشهد فى السوق العربى «جاكسون» فقد كان مختلفاً تماماً.. حراك للمحال التجارية وضجيج فى السوق واصوات «الكماسره» تنادى الثانية والنصف صباحاً «عاشرة صالحة اللفة شيطة منشية رياض برى السلمة المربعات»، وايضاً ينسل صوت ذلك المروج المألوف الذى اختفى نهار رمضان وهو ينادى من واجهة محلات العصائر «يا غاشى تعال ماشى يا بعيد تعال قريب جوافة فى .. اى فى .. منقة فى .. اى فى .. سكرنا سكر كنانة اشرب عصيرنا وتلقى تقديرنا منقتنا منقة ابو جبيهة وليمونا ليمون بارا وبرتقالنا جبل مره ولو زرت مرة جبل مرة .. اى قررررررررررررب .. ياغاشى تعال ماشى»، نورين اسحاق صاحب محل عصائر فى الموقف الجديد يقول: «الحركة فى رمضان كويسة، ونحنا بنشتغل لي قريب وقت السحور، والناس شغالة فى السوق لحدى ثلاثة صباحاً». الثالثة الا ربعاً شهدت محطتنا الاخيرة فى جزيرة توتى، وهى على غير عادتها تضج بالحركة فى هذا الوقت، ويزدحم مدخلها بالمغادرين بعد أن امضو ليلهم الرمضانى تحت جسر توتى الذى يعد من أكثر الأماكن التى تستضيف السهر الرمضانى، بالإضافة الى شارع النيل وحدائق المطار.